صباح في أروقة الألم

صباح في أروقة الألم

يظهر أن اليوم صعب عليه، بعد سهر ليل طويل واستعداده للنوم صباحا.
أعلنت الساعة عن موعد ها السابع مع عقاربها البليدة.
وصلتْ وقالت له: أما زلت مستيقظا؟
دخلت غرفته وكان أقفل انتظاره الطويل على أعتاب الملل.
سألت: أأحضِّر لك الترويقة؟ أجاب بالإيجاب.
أتته بها، وضعتها على مكتبه وخرجت. فطوره كناية عن كوب مليء بالشاي وبعض قطع من الكعك. تعوّد عليها لكي يبتلع أدويته.
أخذ وقته، أنتظر أن تخفّ حرارة الشاي في هذا القيظ، وعندما انتهى وهمّ إلى فراشه قال في نفسه: لمَ لا أعيد كوب الشاي الفارغ إلى المطبخ؟

أمه تدلّله كثيرا رغم طباعه القاسية والمتفرّدة. توقٌ إلى الحرّية المطلقة وابتعادٌ عن كل شيء. أسراره لا يدخلها أحد... أحيانا هي!
تعوّد الاعتماد على النفس مذ سكن في الغرب. كان يطبخ وتعلّم صنع العديد من أصناف الحلويات المحلية. تعوّد استقلالية ذاتية تامّة رغم مرضه وعوائقه.
حياته كانت ملكا فكريا له. كان يحسّ بأنه المسؤول الأوّل والأخير عمّا يجري له ومعه. اعتمادٌ فرض نفسه نتيجة قراره بإكمال الدراسة رغم الداء الذي ابتدأ بجسده أفاعيله. أيقن حينها أن ما من أحد قادر على مساعدته في ظلّ غربته القصريّة ووحشتها هذه.
راح ينظّم وقته حسب متطلّباته، يشتري حاجياته ويوَضّب أغراضه، يغسل، يرتّب المنزل يخرج للتبضّع، ولا يهدأ عن الحركة طوال النهار. كانت حياة عزوبية بحقّ... وما أعذبها!

عند عودته إلى الوطن، وتزايد ثقل المرض عليه، بدأتْ تدخل شيئا فشيئا مجددا إلى حياته.
نمت علاقته بها وتعمّقت حتى الجذور، فأصبحت نِعم الصديقة بعد أن كانت الأم العطوفة.
لجأ إليها مرارا، استشارها كثيرا، أعطته من عطفها المزيد ومن حكمتها ودرايتها الأفضل.
وتوثّقت العلاقة، بترابطها الحتمي ومتانة المشاعر التي راحت تجمعهما على أبواب العلاج، لدى دخوله التردادي الى المستشفى إثر تفاقم المرض. ازداد ثقله عليه، تردّت صحّة هذا الجسد المعاني من رواسبه ودخل مرارا للاستشفاء وما قبل بغيرها شريكا في غرفته الفارغة والباردة هناك. فراغ مشاعر عوّضت عنها بوجودها الكثير.
ترابط عضوي أعاده إلى أحضان الأمومة، رفض معه تثقيل إخوته والأهل بمشاكله. حرصٌ ملازمٌ دأب عليه مذ وعى استقلاليّته وخصوصيّاته الذاتيّة التي يأبى أن يتطّلع عليها أحدٌ سواه.

بدأ يتخلّى تدريجيا عن استقلاليته، أصبح يتّكل عليها في أشياء كثيرة، أصبحت تدلّله وتحاول إعفائه من مهام وأولويّات، حتى الصغيرة والبسيطة منها. كذلك توضيب الطاولة وحمل الأطباق إلى المطبخ بعد الانتهاء من وجبة الظهيرة كانت تتراكض لتقوم هي بها.
لم تدع له مجالا كي يشتكي من مرضه طالما أنها تسهر عليه بحنان وتؤمّن متطلّباته كلّها. أشعرته بصغر حجم هذا المرض و... ربما بصغره تجاهها! عودةٌ إلى طفولة انزلق على أدراجها دون أن يشعر.
رفض موقف المتفرّج هذا راح يعاند ليُشعِرها بعدم عجزه. كان يعاند وكانت تصرّ على الدلال!

قرّر، اليوم، أن يُعيد وعاء الشاي الفارغ إلى المطبخ. أوصله بسرعة، ولدى عودته في الرواق وصل إلى سمعه أنينها الآتي من خلف باب الحمام. ركض، حاول فتح الباب. لقد أقفلته لتأخذ الدوش الصباحي.
كلّمها، سألها إن كانت تسمعخ، طلب منها أن تفتح الباب. وبصعوبة فائقة حرّرت القفل. كانت ملقاة على الأرض. لقد هوت وهي تخرج من المغطس. كسرت يدها!
أدرك حينها مدى المجهود الجبّار الذي قامت به من أجل فتح القفل. منظرٌ أثار الذعر في النفس. لم يتوقّع هذا يوما.
لجأ إلى رباطة جأشه، حكّم عقله، استعمله كطبيب لا كابن يرى والدته ملقاة على الأرض شبه عارية والعرق يتصبب منها من كثرة الألم. جرح نفسي آخر عليه أن يتحمله.
فورا قام بتحضير حقنة... دواء لتخفيف الأوجاع.
حقنة أخرى ألحقها بها... دواء لتخفيف التورم والالتهاب.
وجع القلب لديها صارخ، بدأت تتقيأ. ارتاحة قليلاً، حملها ووالده إلى الفراش لكي تستعيد أنفاسها.
ألحقها بدواء تحت اللسان كي لا يتأثّر قلبها. هي تعاني من حين لآخر من عوارض تصلّبٍ في الشرايين.
انتظر لكي يعطي الدواء مفعوله، ساعدها الوالد في لبس ثيابها، تماسكت أنفاسها... استجمعت قواها... وقَفَتْ!
كسنديانة شامخة لفحتها العاصفة وخسرت غصنا يانعا وقفت بكل قدرتها ومشت!

أوصلتهم سيارة الوالد إلى المستشفى حيث يعمل. تمّت الإجراءات بسرعة، تحاشي الروتينية نظرا لوجوده وعمله هناك. قرارٌ، استوجبه التقييم بسرعة، نابعٌ في اساس من هذه القناعة، اضطرّه لأخذها إلى هناك رغم بعد مكان سكنه عنها.
أُدخِلتْ فورا غرفة العمليّات دون المرور بالطوارئ. قامت طبيبة البنج بتخديرها. ها هي تغفو، صرخ الجرّاح بمساعدَيه: لنبدء.
شدّ من هنا، شدٌّ من هناك، كمن يشدّ أطراف حبل في جهتيه المعاكستين. صوت عظامٍ يتصاعد خفيفا في شبه تحطّم! استعادة اليد مكانها الطبيعي. صورة أخيرة للتأكّد من سلامة العلميّة، كلّ شيء طبيعي، يمكن إعادة إنعاش المريضة، أردف الجراح وهو يلفّ الجصّ على الساعد لتثبيت اليد وتجميد الكسر. استعادت وعيها بعد بضعة دقائق.
استقامت عمليّة إعادة العظم إلى مكانه دقيقتين لا أكثر!

عادت الى المنزل مع التوصيات، عليها أن تضع الجصّ لمدة ثلاثة أسابيع.
ثلاثة أسابيع عقيمة بالنسبة إليها. لن تتمكن من العمل كما يحلوا لها ويطيب. عليه ووالده أن يستعين بأحدهم من أجل تحضير الطعام على الأقل. سيلجأ إلى الطعام المحضّر في المطاعم. لم ترق له الفكرة. قرّر الاستعانة بخبراته السابقة!
أوقات عصيبة راح يشعر بازدياد ثقلها على النفس. عاد بالذاكرة إلى الوراء، أحسّ بالفارق ما بين أوقاته المريحة وهذه اللحظة. ما شعر بالعجز كمثل تلك اللحظات الأليمة. أدرك مدى تعلّق حياته العمليّة بها و... مدى ثقله عليها.
لن تتمكن بعد اليوم ولمدة شهر ونصف من الخروج والاهتمام بجلب المأكل وتحضير الطعام أو الاهتمام بتنظيف البيت أو القيام بواجباتها الاجتماعية. لن تتمكن من الاهتمام بتوضيب غرفته حين خروجه للعمل. لن تقوى على تلبيت حاجات المنزل وحاجاته حين يضطره ذلك للسير طويلاً. كانت تقوم بكل شيء بدلا منه وقد أصبح ذلك كعرفٍ متفاهَمٌ عليه نفسيا. تفاهمٌ فرضه الوقت والمرض ونوعا ما.... خموله!
عجز هو شعور لا يوفي حقّها هذا الذي يشعر به تجاهها.

كانت تقوم بكلّ شيء، بنشاطها الدائم والمعهود، رغم ضعف يدها اليمنى جراء عملية جراحية لاستئصال مرض خبيث منذ سنتين. رغم ذلك استعملت يدها اليسرى واستعاضت بها عن الأخرى. والآن وقد كسرت يدها اليسرى أصبحت شبه مشلولة!
هذا الشعور القوي بالاحباط وبالعجز انتابه وهو يقول للممرّضة وهي تستفهم:
لا يمكنك وضع المصل في يدها اليمنى لأنها خضعت لعمليّة استئصال وعليك استعمال عروق أحدى رجليها!!!!

للجميع....................... الصابر

[c]
كثيرا ما نهرب منا..من أصل تشبثنا بالحياه..وتكبلنا بها وبهمومها

أخي الصابر أتت كلماتك لتؤكد ذلك..




قصه مملوءه بالاستفهام للقارئ في جولته الاولى بين كلماتك ليستشف بعد بعض الوقت رموز كثيره تمحورت في غلالة مواقف..
الغربه..البعد..
العناد ..التصميم..
المرض...المفاجئ..
والعوده...

والعلاقه التي بناها الصمت دونما تدخل من الكلام بالموقف...عصارة شعور لا نستطيع التجرد منه..
لأنه لها..وهي بأعماقنا مهما كبرنا..كابرنا..وعاندنا...ولبتعدنا

وهذا ما ظهر كثيرا في كلماتك..

(ودخل مرارا للاستشفاء وما قبل بغيرها شريكا في غرفته الفارغة والباردة )

(بصغر حجم هذا المرض و... ربما بصغره تجاهها! عودةٌ إلى طفولة انزلق على أدراجها دون أن يشعر. )
(راح يعاند ليُشعِرها بعدم عجزه. كان يعاند وكانت تصرّ على الدلال! )





وتأتي العوده إلى أرض واقع..نحن نعرفه..ولكننا نهرب منه..
العوده إليها..بعدما سقطت...

كلمات محورة أخي الصابر..
لكنها تحمل الكثير بداخلها..
أتمنى لو أكون قد وفيت جزءا صغيرا منها

الدائمه

فدك








[/c]

الأخت فدك...........
شكرا لهذا التحليل الوافي
بدأ سفر غربة عودة إلى البدء قبل الرحيل النهائي
دورة حياة متكاملة ما من مفر منها
إنها قصة توجز الألم وتصبه في خمريّة صباح ثقيل حيث يبدو بتراكمه وكنه لا ينتهي أبدًا
إنها المعاناة التي تعلو فجأة من مكمنها السحيق في قعر أودية النسيان العتيق
ولا بد أن لحظة هلع تعيد إلى الذات وجعها الدفين، كلّ وجعها!
كيف يمكن لأي شخص أن يتصور نفسه في لحظات كهذه وهو المريض والمداوي وهو المتوجّع والمعالج وهو المعاني ومخفف المعاناة.
تناقضات تدخل النفس في لحظات لتجعلها في تجاذب من أمرها
المهم عدم الهروب إلى الأمام ومواجهة الصعاب مهما كانت قاسية ومريرة فالهرب إلى الأمام لا يفيد ويترك المشكلة حيثما تركناها غير محلولة
هذه هي العبرة
أنت قديرة فدك في تحاليلك
كل الشكر................... الصابر

:confused:

المهم عدم الهروب إلى الأمام ومواجهة الصعاب مهما كانت قاسية ومريرة فالهرب إلى الأمام لا يفيد ويترك المشكلة حيثما تركناها غير محلولة



أخي الصابر..
وها هو جزء أخر من محوريات القصه..
(كيف يمكن لأي شخص أن يتصور نفسه في لحظات كهذه وهو المريض والمداوي وهو المتوجّع والمعالج وهو المعاني ومخفف المعاناة. )

وبعد كل ذلك عليه مواجهة تلك المعاناه..وليس الهروب!!!!!!
ألا يحتاج كل ذلك لقوة خارقه..ممتدة من الايمان...

وتقديري..واعذرني على مداخلتي

فدك

الإيـــــــــــمان!
أنت قلت!
نعم الإيمان...
هو اساس كل شيء وبدونه لا مجال لإكمال المسيرة ولا معنى للحياة ولا نكهة للبسمات ولا حلاوة عيش ولا أمل!!!
الإيمان هو التفاؤل
الإيمان هو الحبور
الإيمان هو البشاشة
الإيمان به نصنع كل شيء ونتخطى الذات وكل الحدود
شكرا لك ملاحظتك القيمة
هذا ما كنت أبحث عنه وأريد إيصاله إلى الآخرين
كل التقدير لمقدرتك أختي........... الصابر

رائع أنت أيها المحلق





لك وتقديري

صقر الشرق ............

وجودك علامة رضى تتوالد مع النفس حينما تشعر بالوحدة
إن كلمة التعاضد لهي أفضل تعبير عن الأخوة تأكد
شكرا جزيلا لك........... الصابر

السلام عليكم ،،،،


اخي الكريم ،،،،،،،، النسر المحلّق

قصه مأثره .... ومجهود رائع

بارك الله فيك

اخي النسر المحلق
قصة اكثر من رائعة
تحمل بعدا خفيا , ومعنا عميق
سلمت يداك على ما خطته
يعطيك العافية

تقبل احترامي

أستاذي القدير

بالصدفة عثرت على هذه الرائعة

سلمت وسلم قلمك على ما تقدمه



أختك سراب

صهيل .............................. أدين لك بشكر ولو بعد مرور الوقت









أوراق عاشقة........................... أيضا أدين لك بشكر ولو بعد مرور الوقت










سراب.................. مساء الخير

أيضا هنا تأخرت
ولكن كلماتك الصادقة تجدر أن أكتب لها كلمة شكر نابعة من القلب
قد يكون الألم عاملا من عوامل بلوغ النفس مواقع الفكر المتقدم وهو حتما يجعلنا نفتكر بمصيرنا الحتمي
هذا يؤدي بنا إلى التأمل والتروي ومنه ينبع لا شك الإحساس الصادق ككلماتك النابضة هذه
لذا شكري لك وامتناني لقراءتك هذه القطعة والتعقيب عليها
الطيبة
الصابر

[ALIGN=CENTER]اخوي العزيز[/ALIGN]

[ALIGN=CENTER](( النسر المحلق ))[/ALIGN]

[ALIGN=CENTER]جميل ماكتبت وقصة رائعة

ومؤثرة .

[/ALIGN]

مراحب

اخي الفاضل

دائما يرى الفرد منا ذلك الجانب الأسود في حياته

فلم لا نحاول ان نرى النصف الملىء من الكأس

بالطبع ما سردت قصة رائعه كروعة كاتبها

وأنا أعلق هنا وأقول

الحمد لله فقد كسرت يدها فقط ولم تكسر رجلها في الوقت ذاته

ولم تدق عنها

ولم تصاب بعمودها الفقري

عرض رائع بالفعل

ولك خالص تحيتي وتقديري