الإسلام والخصائص الثقافية للشعوب

بقلم: صالح بن محمد المطيري
من أبرز الخصائص الثقافية للشعوب: اللغة، فاللغة هي الوسيلة التي يتفاهم بها أبناء الشعب الواحد او القومية الواحدة وبها تسير جميع أمورهم ويستمر تواصلهم الاجتماعي والإنساني، ومن الطبيعي أن تكون لكل شعب لغته، بل إن الله تعالى عد ذلك التنوع اللغوي من آياته، قال تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) الروم23، واختلاف الالسنة يشمل اختلاف اللغات وتعددها، كما يشمل أيضا اختلاف اللهجات في اللغة الواحدة، فعندما ظهر الإسلام كان العرب يتكلمون لغة عربية عامة مشتركة يتفاهمون بها من شرق الجزيرة إلى غربها ومن شامها إلى يمنها، وساعد في تأسيس تلك اللغة المشتركة وفودهم إلى الحج في مكة في المواسم، وكذلك مجيئهم إلى الاسواق المشهورة كسوق عكاظ وسوق مجنة وذي المجاز وكلها حول مكة، حتى أصبح هناك لغة أدبية عامة يتفاهم بها جميع العرب.
لكن في ذات الوقت ورغم وجود هذه اللغة المشتركة إلا أنه كانت هناك لهجات محلية لكل قبيلة، وهذا أمر طبيعي في حياة اللغة، فكل لغة مشتركة يوجد لها لهجات محلية، لكن اللهجات العربية القديمة بحسب ما يرويه علماء اللغة، لا يعدو جلها (وليس كلها) إلا أن يكون اختلافات صوتية مثل نطق الكاف شيناً او الحاء عينا او الياء جيماً او اختلاف الحركة من ضم وفتح وكسر، وكل حالة صوتية أوجد لها لغويو العرب لقبا يدل عليها، كالكشكشة، والفحفحة، والتلتلة والاستنطاء، وغيرها من الحالات المفصلة في كتب اللغة (ينظر مثلا: فصول في فقه اللغة، رمضان عبدالتواب 116-154، وكذلك: المفصل، جواد علي 8-562-594)، وهناك فروق لهجوية تشمل مفردات محدودة يذكرها أهل اللغة، ومن ذلك ما ذكره الزبيدي في تاج العروس (9-238) من حديث أبي هريرة حين قدم من أرض دوس أن الرسول صلى الله عليه وسلم- قال له: ناولني السكين، فحار أبو هريرة في أمره فقال: آلمدية تريد؟ قال: نعم. يقول ابو هريرة: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ".
هذا يعني أن اللهجات العربية كانت تختلف على مستوى المفردات وفي أسماء الاشياء أيضا. والحاصل أن القرآن نزل والعرب يتحدثون بلغة عامة مشتركة ذات لهجات قبلية، وكان أن نزل القرآن ابتداء بلغة قريش وهي اللغة التي يفهمها جميع العرب، ويعتبرونها لغتهم المشتركة، ثم بعد الهجرة كثرت القبائل التي دخلت في الإسلام وصارت الوفود تأتي من أطراف الجزيرة إلى المدينة لتعتنق الإسلام على يد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فلما كثر معتنقو الإسلام من القبائل الاخرى (غير قريش) واحتاجوا بالطبع إلى قراءة القرآن الذي نزل بلغة قريش، أي لهجة قريش، عندها أنزل الله الأحرف السبعة التي يقرأ بها القرآن والتي حفظتها الامة في القراءات القرآنية المتواترة، فكانت هذه الاحرف السبعة تخفيفاً على العرب الذين كانت لهم لهجات تخالف اللهجة القرشية وتيسيرا لهم في عدم حملهم على لهجة واحدة في القراءة، (ينظر: حديث الاحرف السبعة، د. عبدالفتاح قارئ، ص 111)، يقول الشيخ مناع القطان: إن من حكمة نزول القرآن على الاحرف السبعة "تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لكل قبيل منهم لسان ولا عهد لهم بحفظ الشرائع فضلا عن أن يكون ذلك مما ألفوه"، (مباحث في علوم القرآن ص 169)، فمن هنا نتبين رحمة الإسلام وتيسيره على هذه الامة الامية -أي التي لم يكن لها كتاب- في تلاوة القرآن وأداء شعائرها به ومراعاة الفروق اللغوية بين قبائل الجزيرة العربية.
كان ذلك في محيط اللغة العربية في جزيرة العرب ولهجاتها المتعددة، لكن كيف كانت الحال مع الأقوام واللغات التي خارج الجزيرة العربية؟ لقد افتتح الإسلام شعوبا كثيرة تتحدث بلغات غير العربية، وبسط سيادته السياسية والإدارية على أصقاع يسكنها أقوام يستخدمون لغات شتى لكل اقليم او كل ناحية، ورغم ان لغة الفاتحين المسلمين كانت العربية، الا انهم لم يمسّوا اللغات المحلية ولم يفرضوا على الناس تغيير لغتهم إلى العربية، رغم ان الشعائر الاسلامية التي يؤديها مسلمو البلد تقوم على العربية. وبهذا بقيت اللغات المحلية وسيلة للتواصل بين سكان البلد رغم أن لغة الادارة السياسية هي العربية، ويشهد لهذا اننا نجد في القرن الرابع الهجري -وهو يمثل العصر الذهبي للغة العربية -نجد أن المتنبي يسافر إلى عضد الدولة في فارس ويمر بشِعب بوّان فيجد الناس يتحدثون بالفارسية ولا يعرفون العربية مطلقا، رغم أن العربية كانت لغة السياسة والادارة في فارس، يقول المتنبي بعد أن يشيد بجمال الطبيعة في ذلك الشّعب:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
مما يعني أنه لم يتواصل معهم البتة لأنهم لا يعرفون العربية ومن هنا شعوره بالغربة.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري نفسه يزور الرحالة ابن حوقل النصيبي جزيرة صقلية، وكانت هذه الجزيرة قد دانت للفتح العربي الاسلامي منذ ما يزيد على القرن والنصف، فيجد الناسَ فيها يرتكبون من الأخطاء اللغوية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب نحوي: تسكين الاسماء في الجملة وجر الفعل مطلقا! يقول ابن حوقل إنه حضر هناك خطيبا كان يخطب الناس حولين كاملين فوجده: "يجزم الاسماء مع الصلة (أي يسكن الاسماء رغم اتصال الكلام) ويجر الافعال من اول خطبته إلى آخرها" (صورة الارض لابن حوقل، ص 127)، وهذا الخطأ غريب جدا خاصة في حالة جر الفعل، لأن الجر إنما يقع على الاسماء وما شاكلها كالصفات وليس على الافعال، وكذلك تسكين أواخر الكلم إنما هي حالة من لا يجيد العربية، وهي حالة مشابهة للغات الاوروبية المجاورة، كما لا حظ ابن حوقل أخطاء كبيرة أخرى مثل نصب نائب الفاعل ورفع المفعول به.
وبالنظر لهذه الاخطاء اللغوية الفادحة التي كان أهل البلد (صقلية) لا يأبهون لمثلها -رغم قلبها لموازين النحو العربي- فإن المجال قد يتسع عندها لاحتمالين، فإما أن يكون أهل صقلية يومها كانوا يستخدمون العربية كلغة ثانية خاصة بالشعائر الدينية والمعاملات الرسمية، إلى جوار استخدام اللغة المحلية بين بعضهم او في شؤونهم الداخلية، مما يعني أن الفتح العربي الاسلامي لم يمارس تطهيرا ثقافيا لخصائص الشعب اللغوية، رغم مكوثه طويلا في الجزيرة. وإما أن تكون العربية فعلا هي لغتهم الوحيدة غير أنها قد تأثرت وتشبعت باللغات المجاورة في شمال المتوسط، او باللغات السابقة التي كانت في الجزيرة. وفي كل الاحوال كان المشهد اللغوي هناك مثارا للدهشة، خاصة أن الاخطاء لم يسجلها الرحالة من أفواه السوقة او الباعة المتجولين، وإنما سجلها من افواه أناس خطباء ومتعلمين.
وفي الاندلس ذات الثقافة العربية الاسلامية عاشت لغات كاللاتينية والعبرية قرونا تحت كنف اللغة العربية، بل ان اللغة العبرية لم تنتعش إلا بفضل تسامح الحكم الاسلامي وعدالته مع اهل الذمة. وكانت اللغة اللاتينية مستخدمة بين نصارى الاندلس لا سيما أنها اللغة التي كانت سائدة قبل الفتح الاسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية، ونجد في كتاب ابن أصيبعة أن اللاتين -وهم أبناء (اللسان اللطيني) أي اللغة اللاتينية -كان يستعان بهم في ترجمة الكتب من اللاتينية إلى العربية (طبقات الاطباء 3-76)، مما يعني أنهم كانوا يستخدمون لغتهم بحرية رغم سيادة اللغة العربية.
وبهذه المعاملة الاسلامية الكريمة واحترامها لخصيصة ثقافية مهمة استطاعت لغات شتى أن تستمر حتى عصرنا الحاضر، رغم انها ظلت قرونا تحت سيطرة ادارة تستخدم العربية كلغة رسمية. وبهذا عاشت واستمرت بل انتعشت لغات الشعوب المفتتحة كالفارسية والتركية والاوردية ولغات الشعوب المسلمة في جنوب شرق آسية وواصلت دورها كوسيلة اتصال بين أفراد الشعب حتى عصرنا الحاضر. هكذا كانت معاملة الإسلام لتلك الخصيصة الثقافية المهمة، اللغة، التي ببقائها واستمرارها يواصل تاريخ الأمة تقدمه ويبقى للأمة اسم ومكانة بين شعوب الارض.
ولقد كانت معاملة كثير من الفاتحين والغزاة تماما لما كانت عليه الفتوحات الاسلامية، ففي العصور المتأخرة بسطت الدول الاستعمارية الغربية سيطرتها على شعوب كثيرة، وإذا تأملنا صنيع تلك الدول الاستعمارية مع الشعوب المستعمرة وكيفية (احترامها!) للخصائص الثقافية لترحمنا على فتوحاتنا الاسلامية، وانك لتعجب ممن يتباهى بالحفاظ او احترام المعطيات الثقافية للشعوب وعلى رأسها اللغة القومية، مع أن تلك الدول لها تاريخ طويل في محاربة الخصائص الثقافية للشعوب المستعمرة.
على سبيل المثال نجد أن البيض لما استعمروا أمريكا الشمالية كانت يومها عامرة بلغات محلية كثيرة لقوميات الهنود الحمر، السكان الاصليين للقارة. إلا أنه في يومنا هذا قد انقرضت كل اللغات المحلية واختفى ذلك النسيج اللغوي الذي كان يوما يبسط رداءه على أنحاء القارة، وكل ذلك إنما حدث بسبب التصفيات العرقية التي مورست ضد السكان الاصليين، زد على ذلك احتقار النظام التعليمي والنظام الاداري للغات القبائل الهندية المحلية، حتى أصبح الهنود أنفسهم مع الزمن يشعرون بالخزي والعار من استخدام لغاتهم الاصلية، ومع مرور الوقت تضاءل مستخدمو اللغات الاصلية من أبنائها بل ندر أن تجد من يتحدثها، حتى أصبح يقال إن في مدينة كذا في ولاية كذا يوجد شخص يتحدث لغات الهنود الأصلية، ثم انقرضت تلك اللغات بالكلية، وبانقراض تلك الخصيصة الثقافية اختفت القوميات الهندية من المشهد وخرجت من مسرح التاريخ وضاعت في خضم قوميات البيض المستعمرة، وهكذا اندثرت ثقافة الهنود بانقراض اللغة التي كانت وعاء لها.
ومن يدري، ربما كان الهنود أحسن حالا من غيرهم، إذ يذكر اللغوي (تراسك) في معرض كلامه عن موت اللغات وانقراضها (Historical Linguistics,p. 324 ) أن البريطانيين عندما دخلوا جزيرة (تسمانيا) جنوب استراليا عام 1803 رأوا أن السكان المحليين يشكلون عائقا من استعمار البيض للجزيرة، فشنوا عليهم حرب إبادة عنصرية، وأعطي الجنود أوامر بأن يقتنصوا السكان الاصليين أينما وجدوا على سطح الجزيرة، ومن بقي منهم في النهاية (200 شخص) وضعوهم في معتقل كبير ومنعوا من الماء والطعام حتى ماتوا عن بكرة أبيهم وانقطع نسلهم من الجزيرة، وبهذه التصفية انقرض الشعب التسماني كله وانقرضت معه اللغة التي كانت يوما تسود الجزيرة، وهذه معاملة في منتهى الفظاظة والوحشية، فالبريطانيون، ببساطة، لم يحتملوا ان يعيشوا مع قوم يغايرونهم في الخصائص الثقافية رغم ان هؤلاء القوم هم السكان الاصليون للجزيرة وهم لم يبدوا عدوانا سافرا للغرباء الاوربيين المحتلين للجزيرة، وهكذا فعلت العنصرية الثقافية التي غلبت على المحتلين وأدت بهم إلى اجتثاث الثقافة الاصلية للجزيرة.
والخلاصة أن الاسلام برسالته وفتوحاته العادلة لكثير من الشعوب قد احترم جانباً مهماً من خصائصها الثقافية ألا وهو اللغة، بل إنه بمعاملته السمحة للشعوب المفتتحة وعدم مساسه بالوعاء الثقافي للشعوب الاسلامية قد أسهم في استمرار وتقدم لغات شعوب كثيرة.

مقال شيق وممتع في القراءة

شكرا لك اخي نجم الليل

[ALIGN=CENTER]احسنت نجم الليل22

على المعلومات عن خصائص اللغة العربية الي نعتز بها وللاسف بعض الناس اليوم اصبحوا يتساهلون فيها ويخلطوا العربي مع الانجليزي .....

لك[/ALIGN]

[ALIGN=CENTER]
نجم الليل 22

*
أن الاسلام برسالته وفتوحاته العادلة لكثير من الشعوب قد احترم جانباً مهماً من خصائصها الثقافية ألا وهو اللغة

موضوع جميل يحكي عن لغتنا التي نفخر بها
تشكراااااااات


::
:
أميرة الورد
:
::




[/ALIGN]

حياة

وحورية البحر

اشكر مروركم الطيب

الاخت اميرة

شكرا

[ALIGN=CENTER]

...:: أخي الكريم : نجم الليل22 ::...

موضوع جميل وممتع جدا
شكرا لك



(`'•.¸(` '•. ¸ * ¸.•'´)¸.•'´)
«´¨`.¸.* مع التحية : أم متعـMـب *. ¸.´¨`»
(¸. •'´(¸.•'´ * `'•.¸)`'•.¸ )
[/ALIGN]

الاخت ام متعب

اشكر مرورك

[c]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،



موضوع جميل وممتع جدا
يعيطك العافية




وتقديري

لينا

[/c]