العودة   منتديات زهرة الشرق > >{}{ منتديات الزهرة الثقافية }{}< > أوراق ثقافية

أوراق ثقافية دروس اللغة العربية - نصوص أدبية - مقالات أدبية - حكم عالمية [أنا البحر في أحشاءه الدر كامن - فهل سألوا الغواص عن صدفاتي]

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 01-04-10, 12:00 PM   #1
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
برديات ... الكاتب محمد سلماوى


عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال (البردية العاشرة)دماء ونبيذ فى عصر الثورة

١/ ٤/ ٢٠١٠


بعد هزيمة كليوباترا السابعة وانتحارها هى والقائد الرومانى مارك أنطونيو ومقتل ولى العهد سيزاريون الذى أنجبته ملكة مصر من يوليوس قيصر، انتهى حكم البطالمة فى مصر الذى أسسه الإسكندر الأكبر عام ٣٣٢ قبل الميلاد، وأعلن الإمبراطور الرومانى أوكتافيون، أغسطس عام ٣٠ قبل الميلاد، سقوط مصر لأول مرة فى تاريخها تحت حكم روما.

وبينما انخرط الحكام البطالمة فى حياة مصر التى تجنسوا بجنسيتها واعتنقوا ديانتها حتى لم يعودوا أغرابا، فقد عرفت مصر أوقاتا عصيبة للغاية تحت حكم الرومان الأغراب الذين استمروا يستنزفون خيرات البلاد ويتفننون فى إذاقة أهلها أفظع أنواع العذاب طوال ما يقرب من ٧٠٠ سنة وحتى الفتح الإسلامى فى عام ٦٤١ بعد الميلاد.

ورغم أن قسوة الحكم الرومانى كانت معروفة فى كل البلاد التى غزوها وضموها للإمبراطورية الرومانية مترامية الأطراف فإنها فى حالة مصر التى لم يتمكنوا من ضمها لإمبراطوريتهم وظلت تعتبر دولة محتلة كانت القسوة الرومانية لها هدف خاص هو إذلال تلك الحضارة العريقة وأبنائها الذين طالما استعصوا على سيطرة روما وتفوقوا على حضارتها المنافسة عبر قرون طويلة من الزمان، حتى إن أحد أسباب لجوء كليوباترا إلى الانتحار كان كى لا تمكن حكام روما من تحقيق ما كانوا يتطلعون إليه، وهو الطواف بالملكة المصرية مكبلة بالأصفاد فى قفص حديدى كالحيوانات فى شوارع روما.

وفى عهد الإمبراطور ديوكلسيان الذى دام من عام ٢٨٤ إلى عام ٣٠٥ وصل اضطهاد أبناء مصر الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية إلى ما لم يصل إليه فى أى مرحلة أخرى من مراحل الحكم الرومانى، وأنذر الحاكم الرومانى المصريين بعذاب وحشى لم يعرفه شعب فى التاريخ من قبل ولا من بعد، إذا لم يعودوا عن تلك الديانة الغريبة ويلتزموا بالوثنية السائدة فى روما.

وذهب وفد من قبط مصر إلى قصر الحاكم الرومانى فى الإسكندرية. كان بينهم الراهب العجوز فيلوباتير الذى استأذن الحاكم فى الكلام، فلما أذن له شرح للحاكم أن المصريين طوال تاريخهم الممتد عبر آلاف السنين لم يعرفوا الوثنية ولا عبادة الأصنام، بل كانوا دائما يعبدون إلها واحدا هو خالق هذا الكون وإن تجسد فى أشكال مختلفة.

ثم نظر الراهب إلى الحاكم الذى كان فى عمر أبنائه وقال: «لذلك فإن ما تسمونه الديانة الغريبة وفى قلبها الثالوث المقدس هو امتداد لمعتقداتنا المتوارثة عبر أجيال وأجيال، والتى تقوم على ثالوث إيزيس وأوزيريس وحورس. كما أن مصر هى التى احتضنت العائلة المقدسة حين فرت بيسوع الطفل من حكم الرومان فى فلسطين، ولولا الحماية التى وفرتها له مصر لربما تغير وجه التاريخ المسيحى فى العالم».

نظر الحاكم الرومانى شذرا إلى الراهب المصرى وقال له: «إنها المرة الأخيرة التى أطلب منك أيها الراهب أن تدعو قومك للالتزام بتعاليم روما أم الحضارات جميعا والتى هى القوة العظمى التى لا يضارعها أحد، فدعك من الحديث الأجوف عن دينك الجديد هذا». لكن فيلوباتير قال فى غضب: «إن ديننا هو الذى ينير حياتنا وسط الظلام الحالك الذى أصبح يخيم على البلاد منذ وطأتها أقدامكم المحتلة».

قذف الحاكم الرومانى بالكأس الفضية التى كان يحتسى منها النبيذ وصرخ فى الراهب ورفاقه: «أخرجوا من هنا فورا وانتظروا أياما سوداء لم تتصوروها فى أكثر كوابيسكم رعبا وإرهابا». ثم ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يقول: «سأريكم كيف تنار الحياة كما يجب».

وفى اليوم التالى أمر الحاكم الرومانى بأن يتم إلقاء القبض على كل من تحول إلى المسيحية وأن يعلقوا جميعا على أعمدة فى الشوارع ويطلون بالقطران من قمة رأسهم إلى أسفل أقدامهم ثم تشعل فيهم النار.

وفى الليل مر الحاكم الرومانى يتفقد أعمدة الإنارة الآدمية التى أحالت الليل إلى نهار، وتوقف عند فيلوباتير العجوز وقال له وهو معلق فى أحد الأعمدة: «يبدو أنك كنت على حق أيها الراهب، فها أنتم تنيرون الدنيا بالفعل بدينكم الجديد».

لم يرد الراهب، لكن المارة الذين توقفوا عنده كانوا يسمعونه يردد كلمات بردية قديمة يعود تاريخها إلى ما يقرب من ٣٠٠٠ سنة قبل دخول الرومان إلى مصر وتحمل عنوان: «حوار اليائس مع البا»، والبا هى الروح التى كان يتم تصويرها على هيئة طائر برأس بشرية. أما كلمات البردية فكانت تقول:

الموت اليوم أمامى

مثل الشفاء أمام المريض

مثل أول خروج بعد المرض.

الموت اليوم أمامى

مثل رائحة المسك

كما لو كان المرء شراعا

تدفعه الرياح القوية

إلى مرفأ الأمان.

الموت اليوم أمامى

كرائحة زهرة اللوتس الذكية

التى تدفع الإنسان إلى حافة السكر.

الموت اليوم أمامى

كطريق ممهد

يرحب بالمحارب بعد المعركة

ليصل أخيرا وبعد عذاب

إلى داره الهادئ السكين.

يتبع


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:00 PM   #2
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


وقد استمرت قسوة الرومان فى مصر حتى بعد أن أصبحت الديانة المسيحية هى الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية فى القرن الرابع بعد الميلاد، وذلك بسبب إصرار روما على اعتناق مصر أفكار المذهب الكاثوليكى وإجبارها على قبول رئاسة بابا روما لبابا الإسكندرية. وقد رفضت مصر هذا الفكر الإيمانى الجديد المخالف لفكرها، حيث كانت مصر من أوائل الدول المسيحية، وكرسى الكرازة المرقسية بالإسكندرية هو أعرق الكراسى البابوية فى العالم.

فى ذلك الوقت تم تسخير كل موارد مصر لخدمة روما وخصصت كل خيرات وادى النيل لصالح المحتلين. كان يتم شحن جميع غلال الأرض السوداء، كما سماها المصريون، بالسفن إلى روما فصارت مصر هى التى تطعم الرومان، وتدهور حال البلاد وانتشر الفقر والمرض بين أبناء وادى النيل أصحاب أعرق حضارات الدنيا فلقى الكثير منهم حتفه وأودع البعض الآخر فى السجون، فى الوقت الذى زادت فيه الضرائب المفروضة على الشعب بشكل لم يعد قابلا للتطبيق، خاصة بعد أن عين الحاكم وزيرا جديدا للمالية قادما من روما كانت مهمته إيجاد موارد جديدة للدولة بأى طريقة، فأصدر أمرا، بمجرد توليه، بفرض ضريبة جديدة ليس على ما يحصده المصريون من غلال أو ما يتكسبونه من تجارة وإنما على البيوت التى يعيشون فيها وعلى الأبناء الذين ينجبونهم.

وانتفض الشعب مشعلا نيران الثورة فى جميع أنحاء البلاد بعد أن ظن الرومان أن المصريين لا يثورون. وفى صباح أحد الأيام صحا قصر الحاكم الرومانى فى الإسكندرية على مقتل أفراد الحرس من الجند الرومان، ووصل الأمر إلى أسماع قيصر فى روما الذى أمر الحاكم بأن يقتل على الفور جميع شباب المدينة وأن يحظر دخول الإسكندرية بعد ذلك على المصريين.

وساءت الأمور بشكل أصبح يهدد الوجود الرومانى فى مصر وفى ذلك الوقت تغير قيصر روما وجاء إلى الحكم قيصر جديد رأى التراجع قليلا عن السياسة السابقة، وإزاء الشكوى بأن المصريين لم يعودوا يحكمون بلادهم قرر الحاكم الرومانى لمصر أن يعين المصريين فى بعض المناصب الرمزية ذرا للرماد فى العيون. ونادى هاتف فى الطرقات والميادين بأنه من اليوم سيشارك المصريون فى حكم البلاد، لكنه توعد فى الوقت نفسه كل من تثبت خيانته لروما، فهؤلاء سيكون عقابهم القتل الفورى دون محاكمة.

لم يكن الحاكم الرومانى يحب المصريين، وكان يسميهم عبيد كليوباترا رغم أن عبيد ملكة مصر الحقيقيين كانوا قياصرة روما وقادتها، لذلك كان يسعى للانتقام منهم بشتى الطرق

فكان يعين فى كل يوم نائبا مصرياً لرئيس الديوان ثم يعلن فى اليوم التالى قتله قائلا إنه ثبتت خيانته.

وفى إحدى الليالى، بعد أن خلد كل من فى قصر الحاكم إلى النوم، جلس رئيس الديوان وحده يحتسى بعض النبيذ ثم نادى على أحد الجنود المصريين الذين كانوا يتناوبون الحراسة فى الليل حتى ينام جند الرومان، وطلب منه أن يستدعى النائب الجديد الذى تم تعيينه فى ذلك اليوم. قال له الجندى مستفسرا: «الآن؟ فى هذه الساعة من الليل؟» فقال رئيس الديوان: «نعم الآن وعلى الفور. لقد أمرنى الحاكم أن أطلع النائب الجديد على أمور الحكم قبل أن يطلع النهار».

وحين عاد الجندى بالنائب الجديد طلب منه رئيس الديوان أن يتركه له وينصرف، لكن الجندى لم ينصرف بل اختبأ خلف الستار المخملى الأحمر السميك الذى يغطى نافذة غرفة القصر المؤدية إلى الحديقة عساه يعرف السر وراء تبديل كل نائب لرئيس الديوان بعد يوم واحد من تعيينه.

رحب رئيس الديوان بالنائب المصرى وقدم له بعض الفاكهة فشكره الرجل قائلا إنه تناول عشاءه بالفعل، فصب له كأسا من النبيذ كان النائب على وشك أن يرفضها شاكرا حين قال له رئيس الديوان: «عليك أن تتعود على عادات الرومان إذا كنت تريد أن تستمر فى موقعك الجديد. لا تكن مثل من سبقوك والذين لم يستطع أى منهم البقاء فى هذا المنصب المرموق أكثر من يوم واحد». مد النائب يده وأخذ الكأس فشربها فى جرعة واحدة بينما واصل رئيس الديوان حديثه قائلا: «بإمكانى أن أجعلك تستمر نائبا مدى الحياة، لكن عليك أن تفهم كيف تدار الأمور وتعى ما أقوله لك جيدا» ثم صب للنائب كأسا ثانيا فلم يرفضها.

استمر الحديث بين الرجلين فترة إلى أن قال رئيس الديوان للنائب: «لقد استرحت لك وأعتقد أننى أستطيع الآن أن أسر لك بشىء لم أبح به لأحد من قبل» فرد عليه الرجل: «وأنا سأكون حافظا لسرك وخادما لكل رغباتك» فصب له كأسا جديدة وقال له وهو ينظر إلى النبيذ الأحمر المنساب من القنينة كالدماء: «من الآن فصاعدا أنت موضع سرى» فسأله النائب: «وما هو هذا السر؟» صمت رئيس الديوان قليلا إلى أن انتهى من صب الكأس ثم عاد يقول: «لقد وصل الحاكم إلى مرحلة من الاستبداد لا يرضى عنها أحد. وأنتم يا أهل البلاد بما لكم من تاريخ عريق وماض مجيد تستحقون حياة أفضل من تلك». وواصل رئيس الديوان حديثه وسط دهشة نائبه والجندى المختبئ خلف الستار قائلاً إنه يحب هذا البلد حبا جما ويريد له التقدم والنماء، ولأبنائه الحياة الحرة الكريمة، لكنه لا يستطيع أن يجاهر بذلك.

فغر النائب فاه ولم ينبس بكلمة، فقال له رئيس الديوان: «أفهم تماما أسباب الثورة التى تعم البلاد. لقد كنتم أكثر شعب قدس الحياة الآدمية، وعرف الإيمان، وآمن بالمثل العليا، فكيف ترضون بهذا الضيم؟ إننا نحن الرومان لا نقبل الظلم ولا الاستبداد وحين استبد يوليوس قيصر بالحكم قام نواب الشعب جميعا باغتياله حفاظا على الحرية والديمقراطية ومن أجل الحياة الكريمة والحكم الرشيد».

ثم اقترب رئيس الديوان من نائبة المذهول وهمس له: «إننى أفكر جديا أيها النائب فى اغتيال الحاكم وتخليصكم من شروره» سقطت الكأس من يد النائب وانكسرت، وكاد الجندى يسقط وراء الستار من هول المفاجأة. فقال رئيس الديوان للنائب وهو يوبخه: «يبدو أننى أسأت التقدير. لقد تصورت أنك قوى المراس لا يهزك شىء». فرد عليه الرجل: «وأنا كذلك، لكن الكأس انزلقت من يدى».

وساد الصمت بين الرجلين ولم يعد يسمع فى القاعة إلا خرير النبيذ الذى أخذ رئيس الديوان يصبه فى كأسه الفارغة ثم قال: «لماذا خرست هكذا؟ ما رأيك فيما أسريت لك به؟» قال النائب: «أنا معك. ولكن..» قال رئيس الديوان فى حدة: «ولكن ماذا؟ أراك مترددا»، فرد النائب بسرعة: «لا أبدا.. إنى أسأل فقط كيف يكون التنفيذ؟».. ابتسم رئيس الديوان ابتسامة عريضة واستل من داخل ملابسه خنجرا وقال للرجل: «لقد ملأتنى ثقة بالنفس.

سأذهب على الفور إلى الحاكم وهو نائم فى الفراش فأنقض عليه بهذا الخنجر المسموم وأطعنه فى قلبه هكذا»، وانقض رئيس الديوان على الرجل العجوز فطعنه بالخنجر فخر صريعا على الأرض وسط بركة اختلطت فيها دماؤه بالنبيذ الذى انسكب من الكأس المكسورة، فسحبه رئيس الديوان من إحدى قدميه إلى بهو القصر وهو يصيح بأعلى صوته: «أيقظوا الحاكم! أيقظوا الحاكم!خائن جديد! سنحتاج غدا إلى نائب آخر».

فاندفع الجندى من مخبئه وراء الستار والتقط الخنجر الملقى على الأرض وذهب فى أثر رئيس الديوان وغرسه فى قلبه ثم قتل نفسه حزنا على ما ألم بالبلاد.

وما هى إلا بضع سنوات ونزل الإسلام على مصر كالماء الطهور فغسل الأرض السوداء، أرض الخضرة والنماء، من دنس الاحتلال الرومانى، وأطلق سراح المعتقلين، وأعاد فتح دور العبادة المغلقة، فبدأت تعود إلى مصر معالم النهضة والازدهار فى الفكر والفن والمعمار، وانتعش حال البلاد بعد أن عادت خيراتها إلى أبنائها الذين وجدوا فى الإسلام دعوة للعدل والحق والسماحة والسلام، فدخل غالبيتهم الإسلام أفواجا، وبدأت مصر مرحلة جديدة من تاريخها العريق قيض لها أن تقدم فيها فصلا جديدا من إسهاماتها المتوالية فى حضارة الإنسان.

نصوص: محمد سلماوى
لوحات: مكرم حنين

تمت البرديات


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:32 PM   #3
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال (البردية التاسعة)التابوت الذى ابتلعه البحر

٢٩/ ٣/ ٢٠١٠
كانت «نفرت» فتاة جميلة من أبناء الشعب، وفى صباح مشرق خرجت كعادتها إلى النهر فخلعت ملابسها على الشاطئ ونزلت إلى الماء لتستحم. وبينما هى فى الماء مر أحد الصقور الطائرة فى السماء فجذبه بريق الحجارة الملونة التى تزين نعليها الصغيرين الموضوعين إلى جوار ملابسها فانقض بسرعة وخطف أحدهما وطار به عابرا النهر إلى الوادى.

وما هى إلا لحظات حتى أيقن الصقر أن ما خطفه لا جدوى منه، فلا هو يسمن ولا يُغنى من جوع ولا يروى من ظمأ، فأسقطه على الفور ليستقر فجأة فى حِجْر فرعون البلاد الجالس مع أعوانه فى حديقة قصره يتدبر أمور البلاد.

كان فرعون هو الشاب المحبوب منقرع ابن خفرع وحفيد خوفو الذى ما إن رأى روعة وجمال النعل حتى خفق قلبه فأخذه بين يديه يتأمله ثم قال: «إذا كان النعل بهذا الجمال فما عسى يكون جمال صاحبته؟».

فقال له موناصير العجوز، وهو رئيس الديوان منذ عهد والده خفرع: «أيا ما كان جمال صاحبة هذا النعل فهى يا مولاى من أبناء الشعب والدماء الملكية لا تجرى فى عروقها، لذا فهى لا تصلح أن تكون موضع اهتمام فرعون البلاد العظيم». لكن فرعون ظل يقلب النعل بين يديه وهو يقول لرئيس الديوان: «إن أبناء هذا الشعب هم جند المملكة، وهم بناة الأهرام ومعابد الآلهة، وهم الذين شيدوا بسواعدهم المخلصة أعظم حضارة عرفها الإنسان.

إن الانتساب إلى الشعب يا رئيس الديوان شرف وجاه». ثم سأل فرعون دون أن يرفع نظره عن النعل الذى بين يديه: «ألم يلحظ أحد من أين سقط هذا النعل الجميل؟»، فرد عليه أحد أعوانه المحيطين به: «لقد قذف به صقر كبير من السماء».

فقال منقرع: «إذن ذكّروا رئيس الديوان أن إله السماء حورس لا يتجلى إلا فى هيئة صقر». فلحق كبير الكهنة فرعون على الفور قائلا: «نعم يا مولاى إن ما قام به الصقر الآن لا يمكن أن يكون بلا مغزى. إنها رسالة يا مولاى علينا فك رموزها».

فقال فرعون وقد علت وجهه ابتسامة رضا: «إن رموزها واضحة. لقد استجاب حورس لدعواتى فاختار لى عروسا جميلة من أبناء الشعب تشاركنى حياتى. إن ما علينا أن نفعله ليس فك رموز الرسالة وإنما البحث عمن وقع عليها الاختيار».

وما إن انفض الاجتماع حتى خرج حرس القصر يجوبون جميع أرجاء البلاد بحثا عن صاحبة النعل الجميل الذى سقط فى حِجْر فرعون. لكن الأيام مرت وتلتها الأسابيع دون أن يصلوا إلى شىء.

حين علم فرعون بذلك حزن حزنا شديدا وعاتب أفراد الحرس قائلا إنهم لم يؤدوا واجبهم كما يجب، فأكدوا له أنهم وصلوا حتى أقاصى سيناء فى الشرق وإلى واحة سيوة فى الغرب وحتى الجندل الثانى لنهر النيل فى الجنوب. قال فرعون: «إذن عليكم أن تبحثوا بالقرب من القصر، فالصقر لا يمكن أن يكون قد طار كل هذه المسافات.

إن تلك إشارة إلهية من حورس فى علاه إن لم تلبوها فقد تصيبكم لعنة من الآلهة»، فأضاف كبير الكهنة: «إن حورس العظيم هو حامى فراعين مصر وقاهر الأعداء وهو الذى نصر مينا العظيم موحد الوجهين، لذا وجب طاعته».

كان منقرع محقا فيما قاله عن أن الصقر هو التجسيد الحى للإله حورس إبن إيزيس وأوزيريس فى الثالوث المقدس الذى عرفه المصريون منذ مرحلة ما قبل الأسر وحتى نهاية العصر الرومانى، فقد كان تقديس المصريين القدماء للحيوانات لا يعود إلى عبادتهم لها إذ لم يؤمنوا إلا بإله واحد هو آتوم خالق هذا الكون ومسير أحواله، وهو خالق الآلهة الأخرى التى كان لكل منها مجال واحد لا يتعداه فكان هناك إله للأرض وآخر للسماء وثالث للأنهار، كما كان هناك إله للحكمة وآخر للحرب، وثالث للإخصاب.

هذه الآلهة لم تكن تمضى وقتها كله فى السماء غير عابئة بما يحدث للناس فى الأرض، بل كانت كثيرا ما تنزل إلى الأرض بأمر من آتوم الإله الأكبر لتتفقد أحوال الناس، وعندئذ كان كل منها يتخذ شكل أحد المخلوقات كالبقرة أو التمساح أو الصقر. لذلك كان المصريون يقدسون المخلوقات جميعا ويحرصون على تحنيطها مثل كبار موتاهم باعتبار كل منها تجسيدا لإله من آلهة السماء، فكان قتل الحيوانات عند المصريين يعرض صاحبه لأشد العقاب.

خرج أفراد الحرس مرة أخرى يواصلون بحثهم عن عروس فرعون التى اختارها له الإله حورس، واتجهوا هذه المرة إلى المناطق القريبة من القصر بينما ظل فرعون ينتظر شاردا وصول العروس التى كان يحلم بها ففقد شهيته للطعام وبدت عليه علامات الوهن.

وفى بردية قديمة يقول الشاعر على لسان العاشق:

سوف أرقد فى دارى مريضا

وليس من سبب للمرض

الأطباء والأصدقاء والناس

يدخلون لرؤيتى

لكن ما لم تأت إلىّ الجميلة

فلا حاجة بى لأحد

هى التى تعرف دائى

ووحدها تملك دوائى

أما بقية القصة فهى معروفة للإنسانية فى كل زمان ومكان، فقد أصبحت على مر السنين من القصص الشعبى الدارج فى جميع ثقافات العالم بتنويعات مختلفة ما بين الآداب الشرقية والغربية. فقد وردت فى اليابان وفى قصص ألف ليلة وليلة، كما وردت فى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأسكتلندا. وقد ذكر المؤرخ اليونانى سترابو فى القرن الأول قبل الميلاد أى بعد عهد منقرع بما يقرب من ٢٥٠٠ سنة قصة الفتاة المصرية اليونانية رادوبيس ذات الوجنات الوردية التى استدل الملك عليها من خلال فردة حذائها، كما ذكرها الفرنسى شارل بيرو فى القرن السابع عشر بعد الميلاد فأسماها سندريون ومرادفها الإنجليزى سندريللا، وكتب قصتها الأخوان جريم فى ألمانيا فى القرن التاسع عشر. لكن أحدا لم يعد يتذكر أن أول ذكر للقصة اقترن باسم منقرع قبل الأخوين جريم بـ٤٤ قرنا وقبل بيرو بـ٤٢ قرنا وقبل سترابو بـ٢٢ قرنا.

فقد عثر الملك أخيرا على صاحبة الحذاء فتزوجها وصارت ملكته. فهل يا ترى حدثت هذه القصة بالفعل أم أنها أسطورة من الخيال؟ إذا كانت قد حدثت فهى البرهان الحى على التواصل الذى كان بين منقرع وأبناء شعبه. وإذا كان الحس الشعبى المصرى هو الذى نسجها من خياله الجمعى فقد دفعه إلى ذلك حبه لمليكه العظيم منقرع الذى لابد أن شعبه كان يشعر أنه قريب منه لا ينفصل عنه. وربما كانت الفتاة الجميلة بطلة القصة هى بالفعل خميريربنتى زوجة منقرع وملكته التى يقول لنا التاريخ إنه أحبها حبا جما، فقد كانت أول ملكة فى التاريخ المصرى يتم بناء هرم لها إلى جوار هرم زوجها الفرعون منقرع.

وتصف قصة حب منقرع لملكته كيف كانا يتناجيان بالشعر. ومازالت إحدى البرديات تحمل كلمات الملكة إلى زوجها الفرعون:

أنا حبيبتك

ذات العود النحيل

والعطر الرقيق.

أنا البستان

الذى زرعته بيدك

زهراً وريحاناً.

إذا رنوت إليك

رأيت جمال السماء

وسحر السحاب

وبريق القمر.

جميل شاطئ النهر

حين نلتقى فيه.

وحين تنام يدى فى حضن يدك

جسدى يرتاح وقلبى يضطرب.

كلما مشينا سويا

أسمع فى صوتك أوتار القيثارة

فأرد عليك بأنغام الناى المبتهج.

ورغم أن ما وصلنا من التاريخ حول منقرع قليل ومتفرق، ومنه ما قاله هيرودوت من أنه كان ملكا محبوبا من شعبه، إلا أن هناك بردية قديمة تحكى واقعة ارتبطت بمنقرع تقول إنه فى أواخر سنوات حكمه، وبعد مضى وقت طويل على الأحداث السالفة، نقل إليه كبير الكهنة نبوءة قادمة من معبد بوتو الواقع فى تل الفراعين شمال غرب الدلتا والذى يعود تاريخه إلى فترة ما قبل الأسر تقول إنه لم يعد أمامه فى هذه الدنيا إلا ست سنوات فقط لا سابعة لها، وأنه بعد أن يموت فإن تابوته سيبتلعه البحر. وانتشر أمر النبوءة بين الناس فحزن الشعب على مليكه حزنا كبيرا وساءه أن ينتهى عصر منقرع المحبوب بعد سنوات قليلة، فشكلوا وفدا كبيرا توجه إلى قصر منقرع ليعلنوا هم على تلك النبوءة الجائرة.

استقبل منقرع وملكته وفود الشعب التى تدافعت إلى القصر، واستمعا إلى كلمات ممثليهم الذين قال أحدهم: «ما للأقدار تناصبنا العداء دائما، فالحكام الذين يحبون شعوبهم ويعملون لرفعتها يؤخذون منا بعد سنوات قليلة بينما المستبدون الذين يظلمون شعوبهم يبقون معنا عشرات السنين!» وقال آخر: «إننا نعلن جميعا تمسكنا بمليكنا لسنوات طويلة قادمة»، ثم قام متحدث آخر فشكك فى تلك النبوءة قائلا: «كيف يغرق تابوت فرعون فى البحر وهو لن يستقر إلا فى هرمه العظيم الذى بنيناه بسواعدنا حبا وإخلاصا له»

والحقيقة أن أحدا لم يفهم كيف يبتلع البحر تابوت فرعون، فالمصريون لم يكونوا يحبون البحار ونادرا ما كانوا يجوبونها، فلم يكن لديهم أسطول مهيب يليق بحضارتهم المجيدة، بل كانت مراكبهم فى معظمها نهرية تربط بين وجهى مصر القبلى والبحرى عبر شريان الحياة الذى هو النيل العظيم، أما مراكب الشمس الرائعة التى مازالت تبهر ناظريها حتى الآن فكانت رغم ضخامتها مراكب رمزية مهمتها نقل فرعون إلى العالم الآخر.

«لا، لن نترك تلك النبوءة الكاذبة تتحقق!» قال أحد الحضور، ومضى اليوم بأكمله والجموع تحيط بمنقرع فى قصره لا تريد أن تتركه، بينما لم ينبت فرعون بكلمة من فرط تأثره بمشاعر شعبه الفياضة. وعندما حل المساء وهمّ الناس بالانصراف قالت لهم الملكة: «لا تنصرفوا. إنكم باقون معنا. فقد أعددنا لكم مأدبة قائمة حتى الصباح».

ومنذ ذلك اليوم ظل فرعون وملكته يقيمان كل ليلة مأدبة عظيمة للناس توصل الليل بالنهار فضاعفوا بذلك مع الناس عدد الأيام التى عاشها منقرع وخدعوا نبوءة بوتو فعاش منقرع سنواته الباقية مضاعفة، وحين توفى منقرع دفن جثمانه فى هرمه الذى بناه له شعبه بالحب والتفانى وظل تابوته الرائع قابعا فيه قرونا طويلة وقد نقشت عليه كلمات التقدير الواجبة للفرعون الراحل، التى تقول فى أحد مواضعها:

مثل الصقور

هو يصعد الآن إلى السماء

ريشه مثل ريش الإوز.

كانطلاقة البلا شون

ينطلق صوب الأعالى

يعانق السماء كالطيور المحلقة

مثل الريح.

يعلو ويعلو ليحلق هناك

بعيدا عنكم أيها البشر.

على أن منقرع لم يحلق بعيدا عن أقرانه من البشر الذين أحبهم فأحبوه، فقد ظل قريبا من قلوب المصريين الذين ظلوا بدورهم يبكون على فراقه هو وملكته خميريربنتى لسنوات، ويروون عنهما القصص والحواديت .

وبعد رحيل منقرع بآلاف السنين وفى القرن التاسع عشر بعد الميلاد دخل عالم المصريات البريطانى كورنل فايز إلى عتمة غرفة الدفن بهرم منقرع وأخرج تابوته المحلى بأجمل النقوش فانبهر بمنظره وأراد نقله إلى بلاده لروعته فوضعه على السفينة التجارية بياتريس كى توصله إلى إنجلترا. لكن بياتريس غرقت عام ١٨٣٨ فابتلع البحر على الفور تابوت منقرع الذى ظل ينتظره ٤٥٠٠ سنة، ولم يبق من ذلك التابوت العظيم إلا جزء صغير استقر منذ ذلك الحين فى المتحف البريطانى بلندن.

نصوص: محمد سلماوى

لوحات: مكرم حنين


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:37 PM   #4
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال ( البردية الثامنة ) نبوءة عجوز الصحراء

٢٥/ ٣/ ٢٠١٠


يقف تحتمس الثالث فريدا بين فراعين مصر القديمة فى أنه عمل على تأسيس إمبراطورية مصرية مترامية الأطراف، فكان أول من عبر بغزواته نهر الفرات فى بلاد ما بين النهرين بعد أن أخضع بلاد كنعان وأرض الفينيقيين والحيثيين حتى وصل إلى حدود بابل فى الشرق. كما حقق انتصارات مماثلة فى الجنوب حتى وصل إلى الشلال الرابع فى النوبة، وذلك من خلال حملاته العسكرية المتتالية التى وصل عددها إلى ٧١ حملة تمكن خلالها من إسقاط ٠٥٣ مدينة على امتداد العالم المعروف فى ذلك الوقت مما حدا ببعض المؤرخين لتسميته بنابليون مصر القديمة فى طموحه العسكرى، وبإسكندرها الأكبر فى قدرته على الوصول بحدود إمبراطوريته حيثما شاء.

على أن من خصائص الحضارة المصرية القديمة التى ميزتها عن مثيلاتها فى روما أو أثينا أو بلاد فارس أو فى الصين واليابان أنها لم تسع حتى فى أزهى عصورها لإقامة إمبراطورية خارج حدودها. لقد بهرت مصر التاريخ بحضارة شامخة أقامت قواعدها كلها داخل حدودها التى نعرفها اليوم والتى لم تتغير منذ ٧٥٠٠ سنة.

لذلك فلم تعرف مصر الحروب والغزوات طوال قرون طويلة عاشها المصريون فى أمن وسلام على ضفاف النيل يزرعون النماء فى الأرض ويشيدون الأبنية الناهضة فى السماء، ولم يعرف التاريخ احتلالا لمصر إلا مع الهكسوس خلال حكم الأسرة الثالثة عشرة، أى بعد أكثر من ألف سنة من قيام مينا العظيم بتوحيد وجهى مصر القبلى والبحرى وبعد حكم أكثر من مائتى ملك متوالين.

ولقد خاضت مصر على مدى تاريخها التالى الكثير من المعارك ضد الغزاة والمحتلين من الشرق مثل الآشوريين والفرس، ومن الغرب مثل الليبيين، ومن الجنوب مثل النوبيين والحبشيين. كما خاض الكثير من فراعينها العظام وقادتها العسكريين المعارك الخارجية أيضا، لكن معاركهم لم تهدف لتأسيس امبراطورية تقوم على استغلال ثروات مستعمراتها فى بناء مجد دولة الاحتلال، وإنما كانت فى معظمها حروبا دفاعية تهدف لإخضاع الممالك المجاورة التى كانت كلما قويت هددت أمن مصر واعتدت على حدودها، أو كانت معارك تهدف لتأمين طرق البضائع التى تضمن التبادل التجارى مع الجيران.

كان تحتمس قد عين لتوه قائدا عاما للجيوش المصرية حين خرج فى حملة تدريبية فى الصحراء الغربية يختبر فيها قواته ويطور كفاءتها العسكرية، وفى واحة ظليلة غلبه النعاس تحت نخلة مثمرة سقطت إحدى ثمارها عليه وهو نائم فأفاق من غفوته ليفاجأ بوجه عجوز يحدق فيه عن قرب. انتفض تحتمس قائلا: «من أنت؟» قال الرجل وسط تجاعيد وجهه الكثيفة:

أنا من يعرف سرك

أنا مرسال الآلهة

أكشف لك ما لا تعرفه

وما لا يعرفه عنك البشر

صمت تحتمس ولم يعرف ماذا يقول. تأمل العجوز وجه تحتمس قليلا ثم قال: إن مثلك لا يتكرر إلا كل بضعة قرون من الزمان. لقد حبتك الآلهة فى ساحة القتال بقدرات مخلوقاتها جميعا.

تسمر تحتمس فى مكانه بينما واصل الرجل حديثه وقد بدا وكأنه يردد ما يملى عليه:

ستقطع المسافات كالخيل الرامحة

وتجتاز الرمال كالجمال الهادرة

وتعبر المياه كالأسماك السابحة

وسيكون لك فى كل ذلك

سرعة الطيور الجارحة.

ثم ابتسم العجوز مظهرا أسنانه الصدئة وخيل لتحتمس أنه يهزأ به وهو يقول: «أما خارج الحروب فمثلك مثل جنودك البسطاء لا ميزة لك عليهم». نهض تحتمس بسرعة وأراد أن يمسك بالرجل لكنه اختفى وكأنه وجه خرج من سراب الصحراء ثم اختفى بين الكثبان الرملية، أو أنه طيف من وحى النوم.

وقد صدقت نبوءة عجوز الصحراء الذى لم يره تحتمس ثانية ولا عرف من أين جاء ولا أين ذهب، فحقق من الفتوحات العسكرية ما لم يحققه أحد. فقد كان يتمتع بعقلية عسكرية فذة مكنته من أن يقيم خلال سنوات حكمه الثلاثين إمبراطورية شاسعة لم تعرفها مصر قبله ولا عرفتها بعده.

كان تحتمس الثالث هو الفرعون السادس فى الأسرة الثامنة عشرة وهو ابن تحتمس الثانى الذى أصبحت زوجته حتشبسوت بوفاته وصية على العرش لبضع سنوات إلى أن حملت لقب فرعون مصر طوال ما يزيد على عشرين عاما آل الحكم بعدها إلى تحتمس الثالث.

ولغير المدققين فى أحداث التاريخ المصرى القديم قد تبدو العلاقة بين تحتمس الثالث وحتشبسوت علاقة تنافسية مضطربة بدأت بأن تحولت زوجة أبيه من وصية على العرش تشاركه الحكم إلى فرعون تحكم البلاد وحدها، ولم يصل تحتمس الثالث للحكم منفردا إلا بعد وفاتها.

على أن وقائع التاريخ تشير إلى غير ذلك، فلم تكن حتشبسوت زوجة أب تحتمس الثالث فقط، وإنما كانت أيضا عمته، حيث تزوج تحتمس الثانى أخته غير الشقيقة وجعلها وصية على العرش من بعده، وتلك الحقيقة ليس فى التاريخ ما يشير إلى أنها كانت موضع صراع بين تحتمس الثالث وحتشبسوت، فقد كانت هناك علاقة تعاون على ما يبدو فيما بينهما جعلت حتشبسوت تعين تحتمس قائدا لجيوشها بمجرد بلوغه سن الرشد.

وقد حقق تحتمس أمجادا عظيمة حسبت لعهد حتشبسوت كان من بينها الثورة التى أحدثها فى النظام العسكرى المصرى، والأسلحة التى نجح فى تطويرها بحيث أصبح جيش مصر تحت قيادته أقوى جيوش المنطقة.

ولو كان تحتمس رافضا لحكم حتشبسوت لربما استغل قاعدة قوته هذه فى إزاحة حتشبسوت والاستحواذ على العرش، صحيح أنه فى نهاية حكمه تم طمس اسم حتشبسوت من على جميع آثارها لكن ذلك كان لأسباب أخرى تتعلق بطموح ابنه أمنحوتب الثانى للعرش ولم يكن تحتمس المسؤول عنها.

حين توفيت حتشبسوت وآل العرش لتحتمس الثالث من بعدها انتهز ملك قادش الفرصة للهجوم على مصر فتقدم حتى وصل إلى مدينة مجيدو فى فلسطين حيث تمركزت قواته أمامها. هنا ترك تحتمس أمور الحكم وانطلق شرقا على رأس جيش مكون من حوالى عشرة آلاف جندى فيما اعتبر بعد ذلك أكبر حملاته العسكرية.

وكان تانوتى هو الكاتب العسكرى لتحتمس الثالث والذى دون فتوحاته الجدارية على الجدارين الشمالى والغربى للممر الذى يلتف حول قدس الأقداس فى معبد آمون رع بالكرنك فكان بذلك من أوائل المؤرخين العسكريين الذين عرفهم التاريخ، وتعتبر حوليات تانوتى التى كتبها بأسلوب ملحمى رشيق أول نص تاريخى عرفه الإنسان، وهى أطول مدونة تاريخية منقوشة إذ تتكون من مائتين وخمسة وعشرين نهرا من النصوص طول كل نهر منها خمسة وعشرون مترا.

فى تلك المدونة يشرح تانوتى أن موقف تحتمس كان صعبا، فبعد ثلاثة أيام اعترضت قوات تحتمس جبال الكرمل المنيعة فتوقف ركبه للراحة. وفى المساء عقد تحتمس اجتماعا ضم جميع قادة الجيش كى يتدبروا الأمر. فالجبال كانت تقف سدا منيعا بين جيشه وقوات قادش المتمركزة على الجانب الآخر فى حمى مدينة مجيدو.

يتبع


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:38 PM   #5
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى



قال قائد الجيش لتحتمس: «أمامنا طريقان لا ثالث لهما. الأول يمكننا من الالتفاف حول الجبال من الشمال والثانى يمكنا من الالتفاف حولها من الجنوب، فأيهما ترغب أن نسلك؟» لم يعجب تحتمس أى من الخيارين فكل منهما طريق طويل سيعطى لقوات قادش الوقت أن تستعد للمواجهة. رد القائد على تحتمس: «لكن قواتنا أقوى وأكبر من قواتهم وسنتمكن عند المواجهة من الانتصار عليهم».

قال له تحتمس: «وما أدراك أننا إذا سلكنا طريق الشمال فإن العدو لن يرسل من القوات من يتعقبنا من الجنوب وهكذا يحوطنا من الجانبين فنحارب فى الشمال والجنوب معا؟ أليس هناك طريق ثالث؟» قال قائد الجيش بعد لحظة تفكير: «يمكننا أن نصعد الجبل، لكن طريق الالتفاف حول الجبل هو الأكثر أمانا». فلم يقتنع تحتمس بذلك واتهم قائده بالجبن قائلا: «نحن لم نأت للحرب بحثا عن الأمان إنما جئنا لتحقيق النصر، والنصر لا يتحقق إلا بالجرأة والإقدام».

سكت قائد الجيش ولم يجب وساد الصمت بين الحضور فى مجلس الحرب هذا إلى أن قال تحتمس: «لن نتخذ أيا من هذين الطريقين الطويلين. سأتدبر الأمر هذه الليلة وفى الصباح أقول لكم ما نحن فاعلون».

فى تلك الليلة لم ينم تحتمس. خرج مع عدد قليل من أعوانه يتفقد المكان حتى وجد ممرا ضيقا وسط الجبال يفضى إلى الجانب الآخر، فقرر أن يكون هو طريق العبور إلى قوات العدو المتمركزة خلف الجبال.

أمضى تحتمس الليل يضع خطته العسكرية، وفى الصباح أطلع القوات عليها، فقال له قائد الجيش: «لكنه طريق ضيق للغاية لا يمكن أن تمر منه قواتنا إلا فردا فردا وجوادا جوادا» فرد عليه تحتمس: «وهذا هو ما سنفعله، أولا لأن العدو لن يتصور أننا سنعبر من مثل هذا الطريق، وثانيا لأن ذلك سيعطينا الفرصة كى نتسرب من الخلف إلى صفوف العدو فنواجهه قبل أن يعد عدته للقتال».

ومن خلال تلك الخطة المبتكرة تمكن فرعون مصر العظيم من هزيمة قوات قادش التى فوجئت بالجيش المصرى ينقض عليها من أضعف نقاط استحكاماتها، فمن هذا المضيق تجمعت القوات المصرية خلف إحدى هضاب الجبل إلى أن اكتمل عددها فصعدت الهضبة ومن هناك انهمرت كالشلال الهادر على قوات العدو التى فر أفرادها إلى مدينة مجيدو هربا من جيش تحتمس المارد الجبار.

وحسب ما دونه المؤرخ العسكرى تانوتى فقد وقعت المعركة فيما يوافق يوم ٩ مايو عام ١٤٥٧ قبل الميلاد، وقام تحتمس بعد ذلك بحصار مدينة مجيدو ثمانية أشهر كاملة حتى استسلمت بلا قيد ولا شرط فدخلتها القوات المصرية فى بداية تأسيسها لإمبراطورية امتدت إلى سائر المدن المجاورة وغير المجاورة فتغيرت خريطة العالم بعد أن خضعت معظم ممالكه لقوة تحتمس العسكرية المرهبة.

وقد دون تانوتى أن تحتمس ابتكر وسائل وحيلا جديدة فى حروبه فكان يجعل أفراد قواته يحملون معهم المراكب عبر الصحراء كى يعبروا بها الأنهار التى يلاقونها فى الوديان. كان هذا هو ما حدث فى الحملة الثامنة حين عبرت القوات المصرية تحت قيادته نهر الفرات لأول مرة فى تاريخ مصر القديمة وأخضعت مملكة ميتانى فى منطقة ما بين النهرين.

وقد صاحب عهد تحتمس الكثير من الازدهار المعمارى أيضا فتم إنشاء أعداد كبيرة من المعابد كما انتشر فى عهده استخدام الأكواب والأوانى الزجاجية التى لم تكن معروفة قبل عهد الأسرة الثامنة عشرة.

وإذا كانت مدينة روما تفخر الآن بين عواصم العالم بأن أطول المسلات الفرعونية جميعا تزين أحد ميادينها، فإن تلك هى مسلة تحتمس الثالث التى عرفها المصريون القدماء باسم «تخن واتى» أى «المسلة الوحيدة» لأنها كانت معدة كى تقف وحدها دون أن تجاورها مسلة ثانية على جانبى المعابد، تماما كما يقف اليوم صاحبها وحده كأعظم الفاتحين من فراعين مصر القديمة.

وفى بردية قديمة نجد الشاعر المصرى المجهول يصف عهد تحتمس الثالث فيقول :

اجلس وتحدث وأنت مرتاح البال

اخرج للنزهة فى الطريق الطويل

لقد زال الخوف من قلوب الرجال

لن نسمع اليوم من ينادى ليلا:

«حذار! فقد حضر من يتكلم غير لغة البلاد!»

الآن يروح الناس ويغدون وهم يغنون

لم تعد هناك شكوى ولا أنين

فمن يفلح الأرض هو الذى يأكل حصادها

بعد أن قهر الملك أعداءه فى الشرق والغرب

بلاد خاتى أخضعت وكذلك كنعان

وجزر خنعم دمرت وأزيلت عسقلان

ودولة ميتانى أقفرت

ولم يعد لذريتها بنين ولا بنات.



وقد كان لتحتمس الثالث ابنان أكبرهما أمنمحات لكن الابن الأصغر أمنحوتب كان هو الذى يسعى إلى الحكم بدعم من أمه مرترى- حتشبسوت التى كانت تعمل جاهدة على أن يؤول الحكم لابنها هى وليس للابن الأكبر الذى كان من زوجة تحتمس الأولى ساتيا. لم يكن أمنحوتب عسكريا مثل والده لكنه تربى فى القصر واختلط برجال السياسة والجيش وبكهنة معبد آمون فوجد بين يديه كل أدوات الحكم.

وقد وصل طموح الابن إلى درجة أنه لم يشأ الانتظار حتى وفاة والده كى يتولى الحكم فأصبح يشارك تحتمس حكم البلاد، خاصة بعد أن أزاح الموت أخاه الأكبر الذى كان يمثل العقبة الرئيسية أمام وصوله للعرش.

كان تحتمس فى ذلك الوقت قد هرم وضعفت قواه فزاد نفوذ أمنحوتب وصارت كلمته فى البلاط تضارع كلمة فرعون البلاد. وتلك هى الفترة التى شهدت تحطيم آثار ملكة مصر العظيمة حتشبسوت ومحو اسمها من على الجدران.

كان هدف أمنحوتب من ذلك هو تأمين وصوله للحكم بعد وفاة والده وذلك بقطع الطريق على أى منافس يمت بصلة دم للملكة السابقة التى اعتبرت رسميا كأن لم تكن. وقد احتدم الصراع بين أمنحوتب ووزير البلاط رخميرع الذى كان الرجل الثانى فى الدولة بعد تحتمس،

والذى قال عن نفسه على جدران مقبرته بالقرنة فى البر الغربى لطيبة إنه لا يجهل شيئا يحدث على الأرض أو فى السماء. كان رخميرع هو الذى يدير شؤون الدولة وهو الذى يعلن الأوامر باسم فرعون ويصدر التعليمات لحكام الأقاليم بشأن الحرث والحصاد، وقد وجد فى طموح الابن الشاب تهديدا لموقعه وانتقاصا من اختصاصاته التى دامت سنين لكنه لم يكن يظهر ذلك لفرعون فى سنه المتقدمة.

وهكذا دار صراع خفى داخل الدولة بين الحرس القديم والحرس الجديد، حيث عمد أمنحوتب لوضع أعوانه فى جميع المناصب الرسمية فى الدولة فشكل ذلك قاعدة قوة له تسانده أمام رجال والده القدامى.

وفى جدارية مقبرة رخميرع يروى الوزير العجوز بالرسوم الواقعية الأخاذة تفاصيل الاجتماع الذى كان يعقده تحتمس الثالث يوميا لرجال الدولة ليقدموا تقاريرهم عن أوضاع البلاد. لكن هذا الاجتماع توقف وأصبحت الأوامر تصدر من الابن وحده.

ففى آخر مرة عقد فيها الاجتماع صدر القرار الذى حسم مسألة صراع القوة بين جناحى البلاط حيث تم عزل رخميرع وتعيين أمنحوتب فرعونا مشاركا فى الحكم مع والده تحتمس الثالث.

وبعد سنتين فقط توفى تحتمس الثالث أعظم فراعين مصر الذى حكم البلاد نصف قرن من الزمان، عشرين عاما بالمشاركة مع حتشبسوت وثلاثين أخرى منفردا، فانطوت صفحة ناصعة وفريدة فى تاريخ مصر القديمة، آل العرش بعدها لأمنحوتب الثانى الذى لم يدم حكمه أكثر من ثلاثة عشر عاما.

وتوحى مقبرة أمنحوتب الثانى فى وادى الملوك بأنه توفى قبل الأوان لسبب أو لآخر حيث دفن فى المقبرة قبل أن تكتمل.

نصوص: محمد سلماوى

لوحات: مكرم حنين

تنشر نصوص البرديات يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:41 PM   #6
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال (البردية السابعة)إن غاب العسكر انطلقت الفئران

٢٢/ ٣/ ٢٠١٠


كان سيتى الثانى الذى حكم مصر منذ عام ١٢٠٠ إلى عام ١١٩٤ قبل الميلاد مثاليا حالما. لم يكن من العسكر المقاتلين مثل رمسيس الأول أو الثانى أو حورمحب أو تحتمس الثالث، وقد وصل إلى الحكم نتيجة للخلاف المستحكم بين كبار العسكر والذى وقف فيه معظمهم إلى جانب غريمه أمنمسو، وهو ابن واحدة من بنات رمسيس الثانى، وقد تولى أمنمسو الحكم بالفعل بعد رحيل مرنبتاح رغم أن مرنبتاح كان قد اختار سيتى الثانى ليخلفه بعد وفاته لكن العسكر انقسموا على أنفسهم بعد ثلاث سنوات من حكمه مما مكن سيتى الثانى من الجلوس على عرش مصر.

بدأ سيتى الثانى حكمه بالتركيز على بناء المعابد بدلا من الحملات العسكرية. كان يتمثل دائما مدونة تأسيس معبد الآله أتوم الذى أقامه سنوسرت الأول فى هليوبوليس حوالى عام ١٩٦٠ قبل الميلاد والتى تقول كلماتها المنقوشة على وجهى قطعة من الجلد: خالد هو ذاك الشىء الحسن الذى صنعته، فالملك المعروف بإنشاءاته لا يموت أبدا.

ورغم أن المعبد الذى شيده سنوسرت لآتوم لم يعد موجودا الآن إلا أن أبنية سيتى الثانى التى استلهمها من ذلك المعبد مازالت صامدة فى الكرنك وفى الرامسيوم وغيرهما.

على أن قادة الجيش ظلوا يناصبون سيتى الثانى العداء، فكان أن اتخذ قرارا حاسما بالتخلص من العسكر الذين كانوا يسيطرون على مقاليد الأمور ويقررون من الذى يتولى الحكم، حيث حصلوا على مزايا كبيرة وعلى أموال طائلة خلال حكم الفراعنة السابقين فسحب سيتى الثانى منهم امتيازاتهم، وصادر أملاكهم، وحظر عليهم التدخل فى شؤون الحكم، إلى أن قضى تماما على نفوذهم.

وقد أدى ذلك إلى تذمر قادة الجيش الذين شكلوا وفدا وذهبوا إلى قصر فرعون يحاولون إثناءه عن قراراته، لكنه كان صلبا فى موقفه حيث قال لهم: «الجيش وجد فقط للقتال وليس لحكم البلاد، حين تحتاجكم البلاد للدفاع عن أراضيها سنخطركم بذلك. أما فى وقت السلم فلا شأن لكم بالحكم الذى هو من حق فرعون وحده ابن رع رب الشمس وإله الآلهة فى السماء.

قال قائد الجيش: «اترك لنا أملاكنا ولن نتدخل فى حكم البلاد». فرد فرعون: «تلك الأملاك سلبت من الأملاك العامة. مالكم أنتم بالأملاك؟» فرد القائد: «لم نسلب أحدا شيئا.لقد منحها لنا ملوك البلاد»، فجاء رد فرعون: «قد كانت رشوة خطيرة تستوجب المحاكمة للراشى والمرشو معا، لكنى أعدتها للأملاك العامة وجنبتكم حكم العدالة، فاذهبوا الآن ولا تعودوا للجدل فى هذا الموضوع». وخرج العسكر من قصر فرعون وقد ازدادوا غضبا، لكنهم كانوا بلا حول ولا قوة.

كان الجيش المصرى فى ذلك الوقت مليئا بالأغراب من المرتزقة اليونانيين أو الفينيقيين أو من العبيد الذين كان الجيش وسيلتهم للانعتاق، لذلك فإن تقليص قوة الجيش كان بالنسبة لسيتى وسيلة للحد من الاعتماد على الأجانب الذين أصبحوا يتمتعون بنفوذ وبمزايا رفعتهم فوق باقى أفراد الشعب.

كان لسيتى الثانى ابن لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر هو سبتاح الذى كان يعده كى يخلفه على العرش. كان سيتى دائم التحدث لابنه عن حضارة مصر العظيمة وعن المجد الذى ارتبط بتاريخها على مر العصور، وفى أحد الأيام سأل سبتاح والده وهما عائدان من رحلة صيد صحراوية فى العربة الملكية التى كانت تجرها ستة خيول: «لماذا يا والدى لا تريد أن يكون لمصر جيش؟» فقال له والده ما أدهشه: «لقد صنعت مصر حضارتها العظيمة بدون جيش. لم يكن لخوفو العظيم جيش، ولا لخفرع ولا لمنقرع ولا لسائر ملوك الدولة القديمة التى تركت لنا أعظم الآثار». فسأله سبتاح: «إذن كيف كانوا يقومون بغزواتهم؟» فشرح له فرعون أنهم كانوا يعبئون جيشا كلما كان له احتياج، سواء للحملات العسكرية، أو لبناء هرم فرعون، أو للعمل فى المحاجر لإخراج الحجارة اللازمة لتشييد المعابد، أما بقية الوقت فالناس جميعا يفلحون الأرض ويتكسبون منها كمواطنين عاديين وليس كعسكر فى جيش نظامى لا عمل لهم فى الحياة إلا القتال، لذلك فقد كان الجيش حين تتم تعبئته يكون كل أفراده من المصريين أبناء هذا الوطن الذين يدافعون عن أرضهم وعن زرعهم وليسوا مرتزقة كما تراهم اليوم».

وتوقف ركب فرعون للراحة فى بقعة ظليلة بالقرب من أبيدوس فى طريق عودتهم من الصحراء، فأخذ سيتى الأول ولده إلى معبد ونى الجنائزى وقرأ له ما تم تدوينه على جدرانه قبل أكثر من ألف سنة فى وصف إحدى الحملات العسكرية فى أرض كنعان والتى قام بها جيش مكون من «عشرات الآلاف من المجندين» الذين تم جمعهم خصيصا لهذا الغرض، حيث لم يكن فى الدولة القديمة جيش نظامى.

لم يكن سبتاح يعلم فى ذلك الوقت أن والده لن يستمر فى الحكم إلا ست سنوات فقط وأنه سيتولى الحكم بعده أقرب مما كان يتصور، لكنه كان يتحدث وكأنه يتخيل ما يمكن أن يواجه البلاد من أزمات حقيقية، فسأل والده: «ماذا لو تعرضت مصر فجأة لغزو خارجى؟» فرد فرعون: «فى هذه الحالة فقط سندعو إلى تعبئة الجيش». لم يقتنع سبتاح تماما بما قاله والده. فسأله: «وما الضرر فى أن يكون العسكر جاهزين من الآن؟» رد عليه والده: «الضرر كبير يا ولدى. غدا سأحدثك عنه وأروى لك ما فعله العسكر بالبلاد».

لكن فى اليوم التالى مباشرة حدث ما سأل عنه سبتاح والده، فقد قام الآشوريون بقيادة مليكهم سينخرب بالهجوم على مصر فى غزوة مفاجئة لم يكن ينتظرها أحد، وكما قال سيتى لابنه دعا إلى تعبئة الجيش للتصدى لقوات الآشوريين قبل أن تصل إلى حدود البلاد، لكن قادة العسكر قدموا مصالحهم الشخصية على مصالح البلاد ورفضوا التعبئة.

هرع كبير الكهنة إلى فرعون على رأس وفد من كهنة معبد الكرنك برسالة مؤداها أن يرضخ فرعون لمطالب العسكر إنقاذا للبلاد وللعرش أيضا. لكن سيتى الثانى قال لهم: «عجيب حقا أمركم. إن تاريخ بلادنا يؤكد أن الحكام كانوا طوال آلاف السنين من طبقة الكهنة مثلكم أو من الكتاب المدنيين إلى أن صار عسكر الجيش فراعنة لأول مرة فى الأسرة الثامنة عشرة، فهل إذا أردت اليوم إصلاح هذا الوضع كنتم أنتم الذين تحاولون إثنائى عن ذلك؟»

قال كبير الكهنة: «مولاى فرعون العظيم، إن ما يتعرض للخطر اليوم هو أمن البلاد ذاته ونحن على استعداد للتغاضى عن حقنا المغتصب من أجل المصلحة الوطنية». فقال فرعون: «وهل أنتم مستعدون أيضا لأن يهان فرعون البلاد ويهزم أمام العسكر؟ كيف يتحقق انتصارنا على الغزاة إذا انهزم رأس البلاد ورضخ للعسكر؟ لقد اتخذت قرارى بإبعاد الجيش عن السياسة ولن أحيد عنه. واتخذت قرارى بالحد من امتيازات العسكر غير الطبيعية ولن أحيد عنه. أما إذا كان الجيش يرفض الآن تنفيذ أوامر فرعون بالدفاع عن تراب الوطن فتلك خيانة عظمى يحاكمون عليها الآن قبل أن يحاكمهم التاريخ».

نظر الكهنة إلى بعضهم البعض ولم يردوا. بعد لحظة صمت قال كبير الكهنة: «صدقت يا ملك الملوك، ولكن كيف سنصد الغزاة الأشوريين بلا جيش؟» فرد فرعون: «سأحارب بالشعب» وانفض الاجتماع دون أن يفهم الكهنة ما قصده سيتى الثانى.

فى اليوم التالى مباشرة نزل سيتى الثانى وولده سبتاح وأعوانه من رجال القصر إلى ساحات المدينة يتحدثون إلى الناس عن التهديد الذى تتعرض له البلاد على يد الآشوريين وعن عصيان الجيش. قال فرعون: «المعارك هى التى تظهر معادن الرجال، ونحن الآن نواجه معركتين الأولى لحماية البلاد من هؤلاء الذين يريدون اغتصابها من الخارج والثانية لحمايتها من أولئك الذين يريدون اغتصابها فى الداخل. إن علينا أن نخلص البلاد من الاثنين معا لتبقى مصر عظيمة مجيدة، حرة أبية، كما كانت دائما».

ونظر فرعون إلى الجماهير وقال: «فى هذه المعركة أنتم سلاح البلاد الوحيد وهو سلاح جد خطير» . فهتف الرجال باسمه ورددت النساء الأهازيج، فقال فرعون: «هذا ليس وقت الهتاف والغناء. هو وقت العمل الجاد من أجل النصر، فأرونى ما أنتم فاعلون». فتقدم الشباب

بصدورهم العارية التى لفحتها أشعة الشمس يقولون: «نحن جيش مصر إلى أن يزول الخطر!».

وتمكن فرعون ورجاله خلال بضعة أيام من جمع آلاف المتطوعين الذين صرف لهم السلاح والعتاد وبدأ تدريبهم استعدادا لصد الغزاة.

فى ذلك اليوم عاد فرعون إلى قصره هنىء البال وقال لسبتاح: «سترى الآن ما سيفعله الناس» فسأله سبتاح «لكن ينقصهم الوقت الكافى للتدريب» فرد والده: «قلة التدريب ستعوضها قوة العزيمة. لقد وصلتنى أنباء مؤكدة بأن قوات سينخرب وصلت إلى حدود سيناء وأن أعدادها لا تزيد على الخمسة آلاف بينما عندنا حتى الآن ستة آلاف متطوع، هم لديهم التدريب لكنهم يحاربون طمعا فيما ليس لهم، بينما رجالنا قد يعوزهم التدريب لكنهم يحاربون من أجل حماية وطنهم ودفاعا عما هو لهم، لذلك فسيجدون الوسيلة للانتصار على هؤلاء الغزاة».

«كيف؟» سأل سيبتاح. قال سيتى: «لا أعرف». قال سبتاح: «إنى خائف يا والدى»، فرد والده: «لا تخف يا بنى فالحاكم الذى تكون قاعدة قوته هى تأييد الشعب يكون أقوى من ذلك الذى يعتمد على قوة السلاح».

وفى الأيام التالية ازداد تأييد الناس لمليكهم والتف الناس حوله. وفى مدينة اللاهون القديمة الواقعة جهة الحافة الشرقية للفيوم اكتشف عالم المصريات البريطانى الشهير فلندرز بترى مجموعة من البرديات ما بين عامى ١٨٨٩ و١٨٩٠ صارت تعرف باسم برديات اللاهون وقد شاهدت إحداها فى متحف بترى فى جامعة يونفرستى كولدج بلندن، وكانت نقوشها الهيروغليفية تحكى قصة تأييد الشعب لحاكمهم فتقول فى أسلوب شعرى جميل:

هو وحده يساوى الملايين والآخرون صغار.

هو القاعة الرطبة حيث يستطيع المرء أن ينام نهارا.

من يلجأ إليه لا يمكن ملاحقته.

إنه الملاذ الذى ينقذ المذعور من أعدائه.

إنه ظل الربيع الظليل والحمام البارد صيفا.

إنه المكان الدافئ الجاف فى الشتاء.

وهو السور الواقى من الريح

حين يهب الإعصار فى السماء.

ومع بداية تدريب المتطوعين بدأت أعدادهم تتزايد فكانوا يقومون بتنظيم أنفسهم إلى عدة فرق بعضهم مهاجم والآخر مدافع، وحددوا مواقع تمركزهم على الحدود وداخل البلاد، وحين وصل الآشوريون إلى الحدود الشرقية للبلاد وجدوا آلاف المقاتلين فى انتظارهم فتوقفوا فى أماكنهم وقال قائدهم: « سنبيت الليل هنا نتدبر الأمر إلى أن تصلنا إمدادات جديدة من بر الشام».

أما داخل الحدود فقد تجمع الناس حول المقاتلين المتطوعين وأحضروا لهم الطعام والشراب وظلوا يحيطونهم بالرعاية والتأييد. ثم بدأوا ينفذون خطة عبقرية لم يكن يتصورها أحد، فقد أخذوا يصيدون كل الفئران التى طالتها أيديهم ووضعوها فى الأقفاص الفارغة التى أحضروا فيها الطعام للمتطوعين.

فى اليوم التالى وصلت قوات جديدة للآشوريين وقال قائد القوات إنهم سيبدأون هجومهم على مصر صباح اليوم التالى، وحين حل الليل أطلق الناس الفئران الجائعة من أقفاصها على خيام الآشوريين وهم نيام فدخلت الفئران فى الظلام إلى الخيام وقرضت بأسنانها أوتار أقواسهم المصنوعة من أمعاء الحيوانات فلم تعد صالحة لإطلاق السهام، كما قرضوا المقابض الجلدية للدروع فلم تعد القوات قادرة على الإمساك بها أو تثبيتها فى زنودها.

وفى الصباح حين فوجئت القوات الآشورية بما حدث أصيبت بهلع، وقال قائدهم: «إنهم سحرة فرعون!» وما هى إلا دقائق وكانت قوات الشعب المصرى تبدأ بالهجوم وتقبض على الأسرى الآشوريين بالمئات وهم بلا حول ولا قوة فكانوا يقدمونهم لسيتى الثانى رمزا لولاء الشعب للفرعون الذى آمن بهم فنصروه وانتصروا لأنفسهم.

وقد كان ونى هو أول من نظم نشيد انتصار فى التاريخ، وكانت تلك هى كلماته:

انتصر الجيش على الأعداء

جيش الشعب المقدام

الذى قضى على الأعداء

الآتين من وراء الرمال

طحنهم تحت الأقدام.

انتصر الجيش على الأعداء

المتربصين ببلاد الخير والنماء

جيش الشعب المقدام

الذى أسر جنودهم

بعشرات الآلاف

بفضل بركات آلهة السماء.

نصوص: محمد سلماوى
لوحات: مكرم حنين

تنشر نصوص البرديات يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:43 PM   #7
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال (البردية السادسة)زهرة الجمال والمجد والخلود

١٨/ ٣/ ٢٠١٠


كانت لوتس هى الأجمل، والأكثر سحراً بين الفتيات، وكان كبتاح هو الأشجع والأكثر قوة بين الفتيان، أحبت لوتس كبتاح بجنون، وأحبها هو أكثر مما أحب الحياة.

كان كبتاح هو أمير البلاد، وكانت لوتس هى ابنة طبيب فرعون، كانا يلتقيان جميع أيام السنة، فى أيام الشتاء حين تسطع الشمس فتشع الدفء فى الأرض، وفى ليالى الصيف حين يظهر القمر فينشر السحر بين البشر، أما مكان اللقاء فكان على شاطئ النهر العظيم، حابى الذى كان يفيض خيراً على الأرض السوداء، التى هى وجه مصر القبلى، والأرض الحمراء التى هى وجهها البحرى.

فى إحدى أمسيات الصيف العليلة خرج القمر مبكراً ليضفى سحره الفضى على لقاء العاشقين، دون أن ينتظر أن تغادر الشمس الأفق، وهكذا بدا القمر فى جانب من السماء والشمس فى الجانب الآخر، التقى القمر والشمس معاً فى لقاء نادر، وكأنهما أرادا أن يرددا بلقائهما فى السماء لقاء كبتاح ولوتس فى الأرض.

كان كبتاح شاباً يافعاً مفتول العضلات جاء للقاء حبيبته حاملاً فى يده لفافة بردى عليها الختم الملكى، وما إن أقبل على لوتس حتى طبع قبلة على رأسها ووضع اللفافة بين يديها، «ما هذا؟» سألت لوتس فى دهشة، «هى رسالة حب نقشتها لك بما فاض به قلبى».

فضت لوتس الختم بسرعة وفتحت لفافة البردى، فبهرتها الرسومات الجميلة التى زينتها بألوانها المبهرة، بينما أخذ كبتاح يتأمل شعرها الأسود الطويل وبشرتها الصافية. أعطت لوتس كبتاح البردية بعد أن فضت ختمها، وقالت له: «اقرأها لى، أريد أن أسمعها بصوتك». أخذ كبتاح البردية وقرأها لحبيبته، فانحنى القمر يتابع كلماتها وأزاحت شمس المغيب السحب من حولها لتضىء بنورها نقوشها المبهرة.

أنت الأجمل بين النساء

ليس كمثلك أحد

أنت النجم المشرق

فى مطلع سنة جديدة

أنت زخات الماء

فى يوم الفيضان..

أما أنا فغارق لرأسى

تحت أمواج الحب.

ثغرك برعم زهرة

نهدك ثمرة تين

جبينك طوق من عاج..

أما أنا فإوزة برية

سقطت راضية

فى شرك الحب.

حبك فى قلبى

كبوصة فى أحضان الريح

يقتلعها ويطير بها كيفما شاء

من بستان إلى بستان

أو يقذف بها فى يم الحب.

علقت لوتس ذراعيها فى رقبة كبتاح، وكأنها علامة عنخ، مفتاح الحياة، تتدلى من قلادة حول رقبته، احتضنها ودار بها كما تدور الكواكب حول الشمس، وهو يكمل بقية القصيدة من الذاكرة:

انظر إليها يا حابى

يا إله الفيضان

تلوح فى الأفق

كفجر يوم جديد

يزيد فيه الخير

ويعم الرخاء.

انظر بشرتها الناضرة

تفتنك بنظرات عينيها

تخلبك بكلمات شفتيها.

عنقها مرمرى طويل

شعرها أجمل من النبات الفارع

ساعدها أروع من الذهب اللامع

إزارها مشدود عند أسفل ظهرها

تسحر الأرض حين تمشى فوقها

نبيلة المظهر عودها رشيق

جميلة المعشر صوتها رقيق

هى شمس النهار وقمر الليل

هى وحدها عروس النيل.

صاحت لوتس وقد أصابها الدوار: «كفى، كفى، الدنيا كلها تدور بى، وجهك يدور وسط الحساب، والشمس والقمر يدوران». سقطت على الأرض وسقط فوقها حبيبها فالتقت شفاهما فى قبلة طويلة غارت منها آلهة الشر فى العالم السفلى.

حملها كبتاح بين ذراعيه القويتين وأجلسها تحت شجرة جميز فارعة تجمعت فوقها أسراب من طائر الهدهد استعداداً للمغيب. تنهدت لوتس وهى تنظر لوجه حبيبها، وقالت: «حبى لك بلا بداية ولا نهاية»، وقدمت له تميمة صغيرة من الخزف الأخضر على هيئة علامة شن، رمز اللانهائية، التى تمثل حبلاً عقد من أسفله، فصار حلقة لا بداية لها ولا نهاية، أخذ كبتاح التميمة وقبلها قائلاً: «سأعلقها حول رقبتى ليل نهار، لكن عليك أولاً تقبل هديتى».

قالت لوتس: «لكن قصيدتك كانت أجمل هدية». فرد: «بل كانت مجرد تعبير عما يجيش به صدرى، أما هديتى فهذه». أخذ كبتاح يد لوتس بين يديه ووضع فى إصبعها خاتماً من الذهب يتوسطه حجر خسبد، وهو اللازورد الأصيل، الذى لم يكن يتوافر فى مصر بل كان يتم جلبه من أقاصى آسيا، كان خسبد هو أغلى الأحجار وأجملها، قال كبتاح: «إن اللازورد الأزرق الداكن المعرق بالذهب رمز السماء الزرقاء موطن الآلهة، وهو عنوان ارتباطنا الروحى إلى الأبد». وتواعد كبتاح ولوتس على الزواج بعد أن يصبح ملكاً فتكون هى ملكته.

وفى العالم السفلى، حيث العتمة والظلام، أهاج هذا الحديث فى نفس «ست» إله الشر أحاسيس الحقد والغيرة، فهرع إلى سخمت اللبؤة، إلهة الحرب، وروى لها ما سمعه من حديث بين لوتس أجمل الفتيات وكبتاح أقوى الفتيان، ومن وعده بالزواج، فقالت اللبؤة: «لو أنهما تزوجا بالفعل لأنجبا فى الدنيا ذرية أجمل وأقوى من الآلهة جميعاً!».

وسمع حديثهما سوبك التمساح، إله الأنهار والبحيرات، فخرج من باطن النهر، وفتح فكه الكبير صائحاً: «هذا ما لا ينبغى أن يكون».

وفى مساء نفس اليوم عقدت آلهة الشر فى العالم السفلى اجتماع حرب برئاسة سخمت عند منابع نهر النيل السفلى، الذى يجرى تحت الأرض موازيا للنيل الذى فوقها. وخلال أقل من ساعة كانت الخطة قد اكتملت للخلاص من ذلك الخطر الذى يتهدد الآلهة.

عند الفجر تخلت سخمت عن هيئة اللبؤة وتقمصت شكل شقيقتها الخيرة حتحور ذات الوجه المستدير وأذنى البقرة وذهبت إلى لوتس فى فراشها، فأيقظتها على اشتياق عارم لكبتاح الذى تركته منذ سويعات، كما تقمص ست شكل أخيه أوزيريس، وأيقظ كبتاح من نومه على رغبة جامحة للقاء لوتس.

هرعت لوتس قبل أن يبزغ الفجر إلى النهر فى ذات المكان الذى اعتادت فيه لقاء حبيبها. ومع مطلع الصباح انعكس ضوء النهار على صفحة الماء فصارت كالمرآة. نظرت فيها لوتس لتطمئن على زينتها قبل حضور كبتاح ومن تحت الماء اتخذ سوبك التمساح شكل حبيبها وقد مد ذراعيه إليها مناديا. بلا تفكير قذفت لوتس نفسها فى أحضان حبيبها فابتلعتها مياه النهر على الفور، فهاجت الرياح فى ثورة عاصفة، اً على تلك الجريمة الآثمة وانضمت إليها الرمال القادمة من الصحراء تشكو ما اقترفه اللبؤة والتمساح، بينما غاص سوبك بلوتس إلى قاع النهر.

وما هى إلا ثوانٍ معدودة حتى وصل كبتاح إلى مكان اللقاء الذى لم يكن قد تواعد عليه مع حبيبته يداخله شعور بأنه سيلقاها دون ميعاد. بحث كبتاح عن لوتس يميناً ويساراً فلم يجدها. ظن أنها تأخرت. نظر فى الماء فإذا به يجد وجه حبيبته الجميلة تحت الماء. صرخ صرخة التاعت لها طيور الهدهد فوق شجرة الجميز، بينما أخذ كبتاح يبكى كما لم يبك بشر من قبل، سألته الشجرة عن سبب حزنه المخيف. قال:

حبيبتى الحسناء صارت هناك

عند الشاطئ السفلى

نزلت إلى الماء

غاصت فى الأمواج

إنها الحبيبة المثلى

والتى ليس كمثلها أحد

كانت كالنجم المشرق فى السماء

صارت كالأحجار ترقد فى القاع

شعرها المرسل الجميل

ها هو هائم تحت الأمواج

أحنت شجرة الجميز العجوز إحدى أذرعها لتربت على كبتاح، بينما روى له الهدهد ما حدث. أما طائر أبومنجل المقدس، رمز الحكمة، فقال له: «حين تصير ملكا ستمنح لوتس الخلود وستصبح حبيبتك أشهر الجميلات».

لكن ذلك لم ينتقص من حزن كبتاح، الذى ظلت دموعه تنساب على حافة النهر بلا انقطاع. وبعد انقضاء النهار كانت قد نمت فى المكان الذى تساقطت فيه دموع الأمير زهرة رقيقة لم ير أحد لجمالها مثيلا، وكأنه الإله أتوم الذى خلق البشر من دموعه. كانت زهرة صافية فى لون بشرة حبيبته، رقيقة مثلها وساحرة الجمال، فسماها الأمير زهرة اللوتس، وحين توج ملكا بعد ذلك أمر بأن تصبح اللوتس هى الزهرة المقدسة فازدانت بها حوائط القصور، وأقيمت على هيئتها أعمدة المعابد.

ومن البرديات القديمة ما يصف خلق زهرة اللوتس فتقول: زهرة اللوتس الطاهرة المولودة من التربة الرطبة هى مهد الإله آمون رع، وهى منزل قرص الشمس الذهبى، فكأس الزهرة من ذهب وساقها من فضة. إنها صورة بديعة ترمز للوضع الذى سبق ولادة النجم الساطع وقت أن كان كامنا مضيئا فى تويج الزهرة.

كان الفرعون كبتاح كلما شاهد رسم زهرة اللوتس، الذى انتشر فى البلاد سمع مرثية إيزيس لأوزيريس والمحفوظة على بردية قديمة:

لم أعد أراك

يا من يتوق قلبى للحاق بك

عيناى تبحثان عنك

تعال إلى من تحب

اقترب من أختك

أنت يا من توقف قلبه عن الخفقان

إنى أناديك بشوقى

ويرتفع نحيبى حتى ليسمعه من فى السماء

أما أنت فلا تسمعنى

أنا أختك التى أحببتها

وغيرى لم تحب

يا حبيبى إلى أبد الآبدين

وغدت زهرة اللوتس منذ ذلك الحين هى الرمز الأول لمصر القديمة فى جمالها ومجدها وخلودها.

نصوص: محمد سلماوى
لوحات: مكرم حنين



okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:48 PM   #8
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال (البردية الثالثة)الأفعى المدفونة فى الرمال

٨/ ٣/ ٢٠١٠


تروى بردية قديمة ازدانت بالرسوم الملونة أن أحد فراعين الأسرة السابعة، التى لم يذكر التاريخ أسماء ملوكها، كان جالساً بعد ظهر أحد الأيام فى حديقة قصره، وقد شخِص ببصره إلى أعواد البردى التى نمت أمامه فى البحيرة المستطيلة، وكأنها نخلات خضراء صغيرة نمت فى الماء.

كان ينظر إلى البحيرة ويتأمل أعواد البردى التى انبثقت أعلى كل منها أفرع دقيقة فى كل اتجاه، كأنها أشعة الشمس المقدسة، لكن ذهنه كان مشغولاً بأمور أخرى تتعلق بذلك النفوذ المتزايد، الذى أصبح يتمتع به قائد الجيش، بعد الانتصارات التى حققها أخيراً، لذلك استدعى فرعون نختيس كبير الكهنة ليستشيره فى الأمر.

كان ذلك قبل أكثر من ألفى سنة قبل الميلاد، فى العصر الذى انقسمت فيه مصر على نفسها، فلم تعد دولة واحدة، لكن الملك كانت له طموحات فى الاستحواذ على المزيد من الأراضى المصرية لتوسيع مملكته، فشن أكثر من حملة على الأراضى المجاورة، وتحققت انتصارات زادت بعض الشىء من قوة مملكته، لكنها ساهمت فى نفس الوقت فى زيادة شعبية قائد الجيش.

وإلى جانب الحملات العسكرية كان الملك يدعم حكمه أيضاً ببناء المعابد العظيمة، تأكيداً لانتمائه إلى الآلهة وإرضاء للكهنة لما يمثلونه من قوة فى المملكة، لكن بمثلما كانت الانتصارات العسكرية تزيد من نفوذ الجيش كان بناء المعابد يزيد من قوة الكهنة، فكان الملك كلما أراد تحجيم أحدهما استعان بالآخر.

حضر نختيس وتقدم حتى وقف أمام الملك وبينهما البحيرة، ثم انحنى حتى كاد ينقلب فى الماء، أشار الملك إلى الحرس أن ينصرف ونهض من مجلسه، وأخذ يتمشى على حافة البحيرة فى هدوء ذهابا وإيابا أمام كبير الكهنة الذى ظل ينتظر ما سيقوله له.

قال الملك: «تعلم يا كبير الكهنة أننا حققنا انتصارات عظيمة للمملكة على مدى السنوات الأخيرة، فقد ضممنا بعض الأراضى فى الشرق كما أخضعنا بلاد بونت فى الجنوب».

فرد كبير الكهنة: «ذلك بفضل عظمتكم يا فرعون البلاد، إنه ثمرة ولائكم الدائم للإله آمون واحتضان جلالتكم لكهنته الذين يحفظون تعاليم الآلهة ويصونون العلم والمعرفة فى جميع أرجاء البلاد».

واصل الملك حديثه فقال: «فقط الجبهة الغربية استعصت علينا، إن إقليم برقة فى ليبيا كلما أرسلت له قوة هزمت شر هزيمة مما يعد تحديا لهيبة المملكة، لقد أصبح هذا الوضع يمثل شوكة تؤرقنا وتقض مضجعنا، لكن لا يبدو أن قائد الجيش فى نشوته بالانتصارات التى حققتها قواتنا يدرك خطورة الموقف».

بدأ نختيس يعى ما يرمى إليه الملك فقال: «يا مليكى العظيم لماذا لا ترسلون جلالتكم قائد الجيش نفسه على رأس قوة إلى برقة لإخضاعها، فإذا انتصر قضى بذلك على الخطر الذى يتهدد المملكة فى الغرب، وإذا انهزم قضى بذلك على خطر أكبر يمثله قائد الجيش نفسه فى الداخل».

عاد الملك فى هدوء إلى مجلسه، وأشار إلى كبير الكهنة أن يتناول إحدى ثمار النخيل الموضوعة فى سلة على المنضدة التى أمامه. مد نختيس يده وتناول حبة تمر بينما قال فرعون فى توجس: «لو انتصر قائد الجيش على تلك الجبهة المستعصية سيعود متصوراً أنه فرعون مصر»، فرد نختيس بصوت خفت قليلاً وكأنه لا يريد لنسمات الهواء أن تنقل كلماته خارج مجلسهما: «كيف ينتصر قائد الجيش وفرعون وحده هو الذى سيحدد حجم العتاد الذى سيرسل إليه فى المعركة؟».

رنا الملك بنظره إلى الأفق البعيد وهو يفكر فيما سمع، بينما فتح كبير الكهنة التمرة بأظافره المدببة، وأخرج منها نواتها قبل أن يضع التمرة فى فمه، وسادت لحظة صمت لم يسمع خلالها إلا حفيف أعواد البردى فى البحيرة وصوت فم نختيس، وهو يمضغ ثمرته فى رتابة، وقد لمع رأسه الحليق فى ضوء شمس النهار.

ومع بداية شهر أبيب الصيفى الحار أصدر الملك أوامره إلى قائد الجيش بالتوجه إلى برقة عبر الصحراء الغربية للقضاء على هذا التمرد غير المقبول على حدود البلاد، وفى اليوم التالى خرج الناس يودعون قائد الجيش وقواته ويلوحون لهم بسعف النخيل متمنين لهم العودة من الصحراء منتصرين.

وغاب قائد الجيش عن البلاد فارتاح الملك، ومضت شهور الصيف والجيش فى معارك تهدأ يومـاً أو اثنين لتشتعل فى اليوم التالى إلى أن مضى قيظ الصيف، وتبعه الخريف، ثم حل الشتاء فكان الجيش قد أنهك وخارت قواه بسبب عدم وصول إمدادات. ومع نهاية شهر هاتور البارد لقى قائد الجيش حتفه فى معركة فاصلة بين الجانبين.

وهكذا تخلص الملك من منافسه الأول، لكن قوات الجيش ظلت محاصرة فى الصحراء الغربية لا تستطيع العودة ولا تقدر على المقاومة، ومع مضى الوقت بدأ الطعام ينفد فتمردت القوات على مليكها الذى أرسلها إلى حتفها ولم يظهر أى اكتراث لأمرها وهى على حافة الفناء.

واستدعى الملك كبير الكهنة إلى القصر الملكى.. لم يلقه هذه المرة على حافة البحيرة، ولم تكن هناك فاكهة.. جلس الملك فى قاعة العرش، على رأسه التاج وفى يده الصولجان وقال لنختيس: «لقد قلت لى يا كبير الكهنة إن فى هزيمة قائدالجيش فائدة، لكننى لا أرى الآن إلا ضرراً ما بعده ضرر. لقد كان التمرد فى السابق خارج حدودنا فصار الآن بين قواتنا داخل الحدود.. إن قائد الجيش رغم نفوذه كان تابعاً لنا يأتمر بأمرنا ولا يتمرد علينا، لكن تمرد الجيش الآن يتهدد العرش ذاته».. فقال نختيس: «تمرد قوات الجيش هو مرض فى جسد الدولة لا ينبغى قبوله، كما أنه خيانة عظمى لعرش المملكة.. اتركهم يا مولاى حيث هم ولا تكترث لأمرهم فشمس الصحراء الحارقة ستكوى تلك البثور وتخلصك منهم كما خلصتك من قائدهم».

فالتفت الملك إلى كبير الكهنة وتمعن النظر فى رأسه الحليق وعينيه الجاحظتين وأدرك كم يكره هذا الرجل.. إنه يكرهه أكثر مما كان يكره قائد الجيش، فهو الذى تسبب فى ذلك التمرد داخل الجيش.

قال الملك لكبير الكهنة: «أريدك أن تذهب بنفسك إلى قواتنا فى الصحراء.. ستكون مهمتك أن تؤكد للجنود حرصى الشخصى على سلامتهم»، ثم أعطى الملك لكبير الكهنة لفافة بردية مختومة بالختم الملكى، وقال له: «عليك أن تقرأ عليهم هذا المرسوم الملكى القاضى بأننا عفونا عنهم جميعا عفوا ملكيا كاملاً، ثم تعود بهم إلى الوادى».

قال نختيس: «تعلم يا ملك الملوك أن أمور الدنيا ليست من اختصاصى، أنا ليس لى إلا عبادة آمون رب السماوات والأرض وفاصل الليل والنهار»، فرد عليه فرعون: «إن فى إنقاذ قواتنا المحاصرة فى الغرب خير عبادة للرب وأكبر قربان للسماء». فقال الكاهن: «ولكن لم اخترتنى أنا؟» رد عليه الملك: «اخترتك لأنك كبير الكهنة ورعايانا المحاصرون سيصدقونك ويثقون فى حديثك، اذهب إليهم على الفور وخذ معك كل ما تحتاجه».

قال الكاهن: «ما أحتاجه هو بركات آمون التى لا تتأتى إلا برضاكم الملكى عنا»، فقال الملك فى اقتضاب: «لك هذا» وانتهت المقابلة.

أعد نختيس عدته ومضى غربا على رأس قوة عسكرية تحمل كل العتاد الذى تحتاجه القوات المحاصرة من أجل عودتها سالمة. وحين وصل أخيرا إلى القوات فى موقعها على الحدود وجد حالها بائسا بأكثر مما كان يتصور، كان المرض والوهن قد تمكنا من أفرادها، وما إن حط رحاله بينهم وسط الصحراء القاحلة حتى هللوا لقدومه وهتفوا بحياته وبسقوط الملك، لكن نختيس أكد لهم أنه لم يأت إلا بأمر من فرعون، وظل يحدثهم ثلاثة أيام متتالية فازداد التفافهم حوله وهتافهم بحياته.

وفى اليوم الرابع تسلل أحد الجنود من خلف كبير الكهنة وهو يواصل حديثه للقوات وما إن انتهى من الكلام حتى سارع الجندى فوضع خوذة نحاسية صدئة فوق رأس نختيس صائحا: «عاش نختيس فرعون مصر خادم آمون ملك ملوك العالمين!» فردد بقية أفراد الجيش الهتاف وراءه.

وجاء قائد القوات التى صحبت نختيس منزعجا لما حدث وطلب أن يصدر له الأمر بقمع تلك الخيانة فى مهدها قبل أن تصل أنباؤها إلى الوادى فيحدث ما لا تحمد عقباه.. لكن نختيس قال له وهو ينظر إلى قرص الشمس الأحمر الهابط فى الغرب: «تلك هى مشيئة آمون فى علاه أيها الجندى، وليس لنا أن نتدخل فيها». وأضاف دون أن ينظر إلى القائد: «إن الآلهة تتدبر أمورنا بما تراه وما علينا نحن إلا الامتثال لإرادتها»، فقال القائد: «ولكنا جئنا هنا فى مهمة محددة..»، فقاطعه نختيس: «لقد طغى الملك وفسد فكانت مشيئة آمون أن يعود العدل والرخاء إلى أرض مصر على يدى كبير كهنته، وبمعاونتكم، وبجند مصر الأبرار الذين يشرفون بقيادتكم».

سكت القائد ولم يتكلم أمام مشيئة آمون فى علاه، فوضع نختيس يديه فوق صدره فى علامة الصولجان وقال: «إنه قدرى بمثل ما هو قدركم.. اذهب على الفور إلى القوة التى أتيت بها وأخبر أفرادها أن ينضموا إلى إخوانهم الذين كانوا محاصرين، فغدا سنعود جميعا إلى الوادى لنتولى مسؤولياتنا.. أنا فرعون مصر المختار من آمون، وأنت قائد الجيش المصرى المعين من فرعون».

حين وصل إلى الملك فى قصره أخبار ما حدث على الجبهة الغربية لم يصدق أذنيه إلى أن تأكد أن نختيس عبر الصحراء الغربية بالفعل، وأنه يتقدم إلى الوادى على رأس القوات الموحدة، بعد أن انضمت قواته للمتمردين.. خرج الملك على رأس قوة من حرس القصر لملاقاة نختيس فى موقعة دامية تمكنت القوات الموحدة خلالها من أسره فعاد إلى القصر الذى خرج منه فى الصباح ملكا ليدخله فى المساء أسيرا. أمر نختيس بحبس الملك داخل زنزانة أسفل القصر مكبلا بالأغلال فى انتظار أن ينفذ فيه فى الصباح حكماً بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، لأنه تسبب فى حصار الجيش الذى كاد يفنى فى الصحراء.

على أن تاريخ مصر لا يبقى على حال، فقد مضت السنون وانصلح حال البلاد فحققت الانتصارات فى شتى المجالات، لكن يبدو أن الخيانة ظلت كامنة تحت الانتصارات كالأفعى الرقطاء المدفونة فى الرمال تطل برأسها بين الحين والحين كلما وجدت من أيقظها، فتنتفض واقفة لتسدد لدغتها المميتة.

وفى بردية أدبية جميلة تحمل اسم «تعاليم إمنمحات» ويعود تاريخها إلى الأسرة الثانية عشرة يتقمص الشاعر صوت فرعون مصر العظيم إمنمحات الأول الذى اغتيل بيد أعوانه فى مؤامرة خسيسة فيوجه النصائح إلى ولده سنوسرت الأول قائلا:

لا تثق بصديق ولا شقيق

لا تسلم سرك لأحد

لقد أكرمت الفقير

وأكبرت الصغير

وربيت اليتيم

وأطعمت المسكين

لكن من تناول طعامى

هو من حرض الناس ضدى

ومن مددت له يدى

هو من أثار القلاقل حولى.

نصوص: محمد سلماوى

لوحات: مكرم حنين

تنشر نصوص البرديات يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:56 PM   #9
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال (البردية الثانية) اثنتا عشرة سعفة ذهبية

٤/ ٣/ ٢٠١٠


كان هايب رع هو الفرعون الرابع فى الأسرة الـ٢٦ فى العصر الصاوى، حين كان مركز الحكم فى مصر هو مدينة صان الحجر بغرب الدلتا، وذلك بعد أن نجح أول فراعين هذه الأسرة بسامتك الأول فى تحرير البلاد من حكم الأشوريين والكوشيين معا، فشهدت مصر بذلك بداية نهضة وطنية عظيمة شملت كل مناحى الحياة السياسية والعسكرية والدينية والفنية.

كان ذلك فى القرن السادس قبل الميلاد، وقد تولى هايب رع الحكم بعد بسامتك الأول بحوالى ٨٠ عاما، وفى ذلك العصر الذى كانت عظمة الحكام تقاس بما حققوه سياسيا وفنيا أيضا كان كل حاكم يسعى لأن يكون فاتحا مغوارا مثلما كان يسعى لأن يكون بنّاء مجيداً.

وقد حقق هايب رع انتصارات عسكرية على الجهة الشمالية الشرقية، فدعم الوجود المصرى فى كل من قبرص وفلسطين وفينيقيا لصد هجمات الآشوريين، كما شيد فى نفس الوقت أبنية معمارية رفيعة المستوى فى صان الحجر والواحة البحرية ومنف وغيرها.

كل ذلك كان يمكنه أن يضمن البقاء لهايب رع طويلا على عرش مصر، لكنه انهزم بعد ذلك أمام قوات نبوخذ نصر التى جاءته من بابل فقوضت هيبته أمام الناس وهزت دعائم عرشه، وقد دفعه ذلك إلى مزيد من التشدد والقمع ضد شعبه فتحول من الانتصارات الخارجية إلى الاستبداد الداخلى، مما أفقده الكثير من حب الناس وتأييدهم السابق له.

وسرعان ما بدأ التململ كنتيجة للكبت الذى أصبح يعانى منه الناس، وبدأت القلاقل تسرى موجاتها بين مختلف فئات الشعب بما فى ذلك الجيش أيضا.

كان القائد العسكرى أحمس المسمى على اسم فرعون الأسرة الثامنة عشرة العظيم، الذى هزم الهكسوس وحرر البلاد من حكمهم، هو قائد الجيش المصرى فى النوبة. غضب أحمس لهزيمة مصر أمام بابل، خاصة أنه طلب الاشتراك بقواته فى صد هجمة نبوخذ نصر لكن طلبه رفض. ثم بدأت تأتيه أخبار من الشمال عن أحوال الناس فلم يكن ينام الليل.

وفى إحدى الليالى الدافئة حين فردت «نوت» إلهة السماء ملاءتها السوداء ذات النجوم الناصعة، أتت أحمس رؤية لا يعرف إن كانت حلما أم علما. اختلطت عليه فى ثورته المتأججة لحظات الليل التى كان يغفو فيها مع تلك التى كان يسعى فيها دون جدوى للنوم، فقد كان انشغاله بحال البلاد كثيرا ما يتركه فى حالة غائمة ما بين النوم واليقظة.

فى تلك الليلة بدا لأحمس أن الآلهة أيقظته من نومه وأنه ماثل أمام محكمة مشكلة من أوزيريس واثنين وأربعين مساعدا من الآلهة، فكان عليه أن يتلو الاعتراف المعهود كما فى الفصل المائة والخمسة والعشرين من كتاب الموتى:

إنى لم أفعل الشر

إنى لم أسىء معاملة الناس

إنى لم أجدف على الله

إنى لم أسلب ممتلكات فقير

إنى لم أتسبب فى ألم أحد

إنى لم أتسبب فى أن يجوع أحد

إنى لم أتسبب فى أن يبكى أحد

إنى لم أقتل

إنى لم أزن

إنى لم أغش الموازين

إنى لم أسرق اللبن من فم الأطفال

إنى لم أحرم الماشية من مرعاها

إنى لم أنصب الفخاخ للطيور فى الحدائق

إنى لم ألوث مياه النيل

إنى طاهر.. إنى طاهر

إنى طاهر.. إنى طاهر

ثم قامت الآلهة بوضع قلب أحمس فى كفة الميزان وجاءت ماعت إلهة الحق والعدل ووضعت ريشتها فى الكفة الأخرى فسقطت كفة أحمس على الفور.

لماذا وقد اعترف صادقا بطهارته؟

لم ترد عليه الآلهة. فقط الإله تحوت كاتب المحكمة الإلهية نظر إليه مدققا، فهو الحكم الدقيق على الميزان، وهو الذى يبرئ المتوفى من كل فعل شرير ويعده للاندماج اندماجا تاما وكاملا مع أوزيريس فيكتب له الخلود.

«لماذا؟» صرخ أحمس ثانية. قال له تحوت دون أن يتكلم: لقد أهملت أحوال البلاد «كيف؟» رد أحمس «وقد حققت لبلادى الانتصارات وحميت حدودها الجنوبية؟» لقد أهملت أحوالها فى الشمال وصممت آذانك عن نداء الجماهير. تعجب أحمس وقال: «أى نداء وأى جماهير؟» لو أطرقت السمع فستجيئك الأصوات.. سيصلك النداء.

سكت أحمس ونظر حوله فشعر فجأة وكأن هناك جماهير من حوله. جاءته من كل صوب وأحاطت به. كانت تتطلع إليه بنظراتها.

أخذ أحمس يتلفت يمينا ويسارا إلى الجموع الغفيرة التى أخذت تضيق عليه الخناق، ولأول مرة سمع أصواتها الهادرة تتعالى حتى تكاد تصم الآذان أن أنقذنا مما نحن فيه. شعر أن الأصوات ترتفع به إلى عنان السماء. وجد نفسه يتحول فجأة إلى صقر كبير من ذهب ارتفع فوق الجماهير المحتشدة، فقال كما فى الفصل المائة والسابع والعشرين من كتاب الموتى «أنا الصقر الذهبى الذى يبلغ طول ظهره أربعة أذرع، وجناحاه من الزمرد، أغادر مقصورة مركب الليل حاملا قلبى إلى الجبل الشرقى، وأحط على متن مركب النهار. ها هى ذى الآلهة الأزلية تتقدم نحوى منحنية تقدم لى المدائح، بينما أتألق أنا مثل صقر برأس عنقاء».

أفاق أحمس فجأة فإذا الظلام قد انقشع وسحبت نوت ملاءتها فبدأت الأشعة الأولى للإلهة رع تغمر الأفق. تأمل أحمس ما حدث له وخيل إليه أنه مازال يسمع أصوات الناس تناديه: «أنقذنا مما نحن فيه!» فأصدر على الفور أمرا إلى قواته بالاستعداد للتقدم نحو الشمال.

وفى بردية قديمة ترجمها من الهيروغليفية عالم المصريات الفرنسى جاستون ماسبيرو وصفا جميلا لمشهد البطل الذاهب للقتال يقول:

كان صدر قميصه موشى بالفضة وظهره مزخرفا باثنتى عشرة سعفة ذهبية.. وفى يده درع نحاسية نقشت عليها وسط السنابل أربعة وجوه لإلهة الحرب سخمت.. أما خوذته فكانت من الذهب والفضة.. حتى إذا وصل ساحة القتال كان كالشمس الساطعة.

تقدم أحمس بجيشه بسرعة كبيرة نحو الشمال فكان يقطع المسافات كأنها أمواج بحر يطويها وراءه، إلى أن وصل أخيرا إلى صان الحجر فنازل قوات فرعون ثلاثة أيام حتى هزمها، فما كان من هايب رع إلا أن هرب شرقا إلى خارج البلاد. حملت الجماهير أحمس فوق أعناقها ومضت به تتوجه فرعونا على عرش الأرض السوداء، أى كمت باللغة المصرية القديمة.

وهكذا صار قائد الجيش المحبوب من الجماهير هو الفرعون أحمس الثانى الذى حكم مصر من عام ٥٧٠ قبل الميلاد إلى عام ٥٢٦ قبل الميلاد. رغم أنه لم يكن سليل الفراعنة وإنما كان أحد أبناء الفلاحين الذين لا تجرى الدماء الملكية فى عروقهم.

ومع حكم أحمس الثانى بدأت تنصلح أحوال الناس، وازدهرت شتى مناحى الحياة، وحقق أحمس الفتوحات المجيدة خاصة فى الشمال، حيث فرض سيطرته على قبرص التى كانت محط أساطيل الغزاة، كما أقام المعابد فى كثير من أنحاء البلاد، وقام بترميم معبد دلفى الشهير فى سيوة. وكان كلما خرج للقتال ارتدى قميصه الذى يحمل ذات النقوش التى انتصر بها على هايب رع فصار رمز عهده هو تلك السعفات الذهبية الإثنتى عشرة.

وتشير وقائع التاريخ إلى أن أحمس الثانى كان ملكا وطنيا محبوبا طوال فترة حكمه التى استمرت حوالى نصف قرن من الزمان. أما هايب رع فقد تحالف مع البابليين الأعداء فى الشرق وعاد بعد ثلاث سنوات مع قواتهم يحاول غزو مصر واسترداد عرشه، فهزمه أحمس الثانى وقتله فى المعركة، لكنه أمر بدفنه فى المقابر الملكية بصان الحجر بما يليق بفراعين مصر.

وقد توقف المؤرخ اليونانى الكبير هيرودوت طويلا أمام إرادة الجماهير المصرية التى أتت بفرعون من اختيارها، فكتب فى تأريخه لأحمس الثانى أنه كان فرعونا محبوبا ذا أصول متواضعة وكان من أوائل الحكام الذين أتوا إلى الحكم بإرادة شعبية.

على أن أحمس الثانى لم يكن من أولئك الذين يتنكرون لأصولهم المتواضعة بعد أن يصلوا إلى المراتب العليا، فقد حرص أثناء حكمه على أن يرفع الكثير من الضرائب التى كانت تثقل كاهل الفلاحين والبسطاء. وفى عهده زاد الفيضان عدة أضعاف فجلب الخير للجميع، وبدا أمام الناس أن الطبيعة ذاتها تؤازره وتبارك عهده.

كان أحمس الثانى أول من سن قانون «من أين لك هذا»، فقد أصبح فى عهده على كل مواطن أن يمثل أمام حاكم المحافظة مرة فى السنة ليحدد له كيف حصل على أمواله خلال العام المنصرم، فإذا عجز عن ذلك ولم يثبت أنه حصل على المال بطريقة شريفة تعرض للمساءلة.

لكن ذلك كله لم يكن يروق للأغنياء من النبلاء، الذين اكتنزوا الثروات على مدى السنين. كما لم يرق للكهنة أن يجلس أحد أبناء الشعب على عرش فرعون، لدرجة أنهم حين كانوا يأتون إلى القصر لم يكونوا يخلعون نعالهم كما كانوا يفعلون مع هايب رع، فلما عاتبهم أحمس قال له كبير الكهنة: «إن روح الإله سوبك التمساح المهيب لم تتجسد فيك».

«ولم ذاك؟» سأل أحمس، فلم يرد كبير الكهنة وإنما رد كبير النبلاء وهو يرمقه بنظرة ثاقبة قصد لها أن تخترق قلبه: «لقد كان والدك بناء أجيرا وكانت والدتك تبيع الجعة التى كانت تصنعها من الخبز المخمر». قال الملك الذى كان يفضل مقارعة الحجة بالحجة: «ذلك هو سر قوتى وسبب تأييد الناس لى، فأنا أعرف أبناء هذا الشعب كما لا تعرفونهم أنتم».

وبعد انتهاء اللقاء أشار قائد الحرس على أحمس الثانى أن يتخلص من الكهنة والنبلاء. قال له إن ذلك سيزيد من شعبيته بين الناس، لكن أحمس رفض قائلا: «سأنتصر عليهم بطريقتى».

استدعى فرعون رئيس الديوان وقال له: «ذلك الحوض الذهبى الكبير الموضوع داخل سور القصر..»، فسأله رئيس الديوان: «ما له يا مولاى؟» قال أحمس: «ماذا تفعلون به هناك؟» فرفع رئيس الديوان حاجبيه فى دهشة وهو يقول: «إنه ملىء بالماء حتى يغسل فيه ضيوفكم يا مولاى أيديهم المتسخة من تراب الطريق وأرجلهم القذرة من روث الحيوانات قبل أن يمثلوا أمامكم».

قال أحمس: «لا لزوم له طالما يأبى بعضهم استخدامه»، ثم أصدر أمرا بإذابة الحوض الذهبى وتكليف النحاتين الذين يصنعون تماثيل الآلهة بأن يحيلوه إلى قرص كبير يمثل إله الشمس العظيم آتون، وأمر بأن يوضع القرص فى أكبر ساحة فى المدينة فكان كلما سقطت عليه أشعة الشمس أعمى ضوؤه أعين الناس الذين كانوا يبتهلون إليه ويقيمون الصلوات من حوله.

وبعد مضى بعض الوقت على هذا الحال خرج الفرعون الشاب محبوب الجماهير إلى ساحة المدينة ليشاهد قرص آتون الذهبى وهو يلتمع فى وضح النهار، ثم جمع كبير الكهنة وجميع النبلاء الذى سجدوا جميعا للإله الأكبر آتون، فقال لهم فرعون وهو جالس على عرشه وسط الناس: «ما هذا الذى تعبدون؟».

نظر الكهنة والنبلاء إلى بعضهم البعض ثم رد كبير الكهنة بصوته الغليظ وكأنه يقيم الصلاة داخل المعبد: «هو آتون ملك ملوك الآلهة، مانح الحياة والخضرة والنماء». فوجه فرعون حديثه لكبير النبلاء: «وأنت ما قولك؟» قال: «إن ما أمامنا يا مولاى هو آتون رب كل ما هو حى وإله الحياة الآخرة». «وأنتم؟» قال الملك لبقية الكهنة والنبلاء. فردوا: «هو إله الناس جميعا».
يتبـــــــــع

djfJJJJ


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:56 PM   #10
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


فقام الملك من على عرشه واتجه إلى حيث كان يقف الكهنة والنبلاء وقال لهم أمام الناس: «ألا تعرفون أن هذا القرص الذهبى المقدس كان فى السابق حوض تغسل فيه القاذروات؟» قال كبير الكهنة وقد صارت وجنتاه من الحرج فى لون عراجين البلح الذى نضج فوق النخيل من حولهم: «ما لنا يا مولاى بما كان فى السابق؟ إن لنا ما هو قائم الآن فى الحاضر»، وردد كبير النبلاء وراءه: «هو الآن يا مولاى آتون علا علاه». وأشار الملك إلى بقية الكهنة والنبلاء جميعا قائلا: «وأنتم ماذا تقولون؟» قالوا: «نقول ما قالوه: هذا الآن إلهنا الذى نعبد».

فرفع الملك صوته كى تسمعه الجماهير التى احتشدت فى الساحة تشاهد هذا العرض المسرحى النادر الذى لا يتكرر كل يوم وقال: «صدقت يا كبير الكهنة، كما صدق كبير النبلاء، وصدق الكهنة جميعا والنبلاء».

ثم توجه إلى كرسى العرش الذى كان يظلله سعف النخيل واتخذ مكانه فوقه آخذا الصولجان فى يديه الملكيتين، ثم قال: «أنا أحمس الثانى فرعون مصر سليل الفلاحين، وقد كنت فى السابق بناء ابن بناء، لكن آلهة السماء أرادت لى أن أكون فى الحاضر فرعونا على مصر يجسد إرادة الآلهة ويحمى وادى النيل ويرعى شعبه المبارك، فماذا أنتم قائلون؟ هل لكم ما كان فى السابق أم ما هو قائم الآن فى الحاضر؟» فسكت الكهنة والنبلاء ولم يجيبوا.

لكن الجماهير التى تحلقت حولهم أخذت تلوح فى الهواء باثنتى عشرة سعفة ذهبية، ثم انطلق صوتها يصيح باسم من توجته هاتفة: «عاش أحمس الثانى فرعون كمت ملك ملوك العالمين!» وكررت الجموع هتافها عدة مرات فما كان من الكهنة والنبلاء إلا أن خروا له ساجدين كما كانوا يفعلون مع الفراعين السابقين.

نصوص: محمد سلماوى

لوحات: مكرم حنين


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-10, 12:58 PM   #11
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: برديات ... الكاتب محمد سلماوى


عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال

١/ ٣/ ٢٠١٠


البردية الأولى .. ما قاله القمر

كان مينا العظيم الذى يرد أيضا فى الكتابات القديمة باسم نارمر هو أول من وحد وجهى مصر القبلى والبحرى عام ٣١٠٠ قبل الميلاد وأسس بذلك الأسرة الحاكمة الأولى فى مصر، لكن التاريخ المصرى لا يبدأ بأسرة مينا وإنما قبلها بـ٢٤٠٠ سنة فيما يعرف بعصر ما قبل الأسر.

وبعد عصر مينا بحوالى ٩٠٠ سنة وفى نهاية الأسرة السادسة كان حاكم مصر فرعون عجوزا هو الملك بيبى الثانى الذى اعتلى العرش بعد وفاة أخيه غير الشقيق مرنرع. لكن بينما لم يدم حكم مرنرع إلا تسع سنوات امتد حكم بيبى الثانى أكثر من تسعين سنة حتى طعن فى السن واعتراه الوهن فلم يعد يبرح قصره وصارت حاشيته تحكم البلاد باسمه بينما هو لا يدرى شيئاً عن أحوال الناس. كانت مصر فى ذلك الوقت تعيش مرحلة اضطرابات وقلاقل وتندلع فيها الثورات ويتهددها الغزاة عبر الحدود الشرقية.

على أن أمين الخزانة الملكية إيبو أور وهو من أخلص رجال الملك كان يسوؤه كثيرا هذا الوضع، فقد كان يتمثل أمامه تاريخ مصر العظيم فى الدولة القديمة التى شيد فراعينها الأهرامات التى تحدت الزمن كما لم تفعل أية أبنية أخرى وحققت لمصر المجد والخلود.

كان إيبو أور كلما نظر إلى هرم خوفو العظيم الذى شيد ٢٧٠٠ عاما قبل الميلاد انفطر قلبه حزنا على ما آلت إليه البلاد بعد أن عمتها الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية، لكنه لم يكن يعرف ماذا يفعل. أصبح لا ينام الليل. كان ينهض من فراشه ويمشى فى الغرفة ذهابا وإيابا من فرط قلقه وخوفه مما يمكن أن يصيب مصر إذا استمرت على هذا الحال.

وفى ليلة ظلماء خرج إيبو أور من منزله فى الساعات الأخيرة من الليل يبحث عن خونسو إله القمر القادر على طرد الأرواح الشريرة عساه يعينه على درء هذا الشر الذى يحيط بالبلاد، والشافى من المرض عله يدله كيف يكون العلاج.

نظر إيبو أور إلى السماء فوجدها حالكة الظلام. لم يكن بها قمر. نظر يمينا ويسارا بحثا عن دلالة أو إشارة إلهية يكون فيها الخلاص فلم يجد من حوله غير الظلام الدامس. صاح فى الخلاء: «أين أنتم يا من خلقتم هذه الأرض الطاهرة.. أرض النيل المحروسة؟ أين آتوم الإله الأكبر خالق الكون وخالق الآلهة؟ هل تخليتم عنا؟ هل تخليتم عن كمت؟ هل تخليتم عن الأرض السوداء؟».

فجأة بدأ الظلام ينقشع قليلا وظهر خونسو من خلف إحدى السحب فرفع إيبو أور ذراعيه متضرعا وساد الصمت لحظات تكلم خلالها القمر بصوت لم يسمعه إلا إيبو أور.. ثم هطل المطر.

عاد إيبو أور إلى بيته صامتا هادئ النفس، وفى اليوم التالى ذهب إلى القصر طالبا مقابلة فرعون فقابله رئيس البلاط وسأله عن سبب المقابلة فرد عليه إيبو أور: «أريد أن أحدث مليكنا فى أحوال البلاد»، فقال رئيس البلاط: «تعلم يا أمين الخزانة أن فرعون طعن فى السن وواجبنا نحوه يقتضى ألا نطلعه على ما يعكر صفوه».

فرد إيبو أور: «لكن الآلهة أوفدتنى لإطلاع فرعون على أحوال البلاد»، فقال رئيس البلاط: «وماذا فى أحوال البلاد؟ إن بيبى الثانى هو أعظم الفراعين فى تاريخ مصر وأحوال البلاد فى عصره أروع ما تكون الأحوال».

عاد إيبو أور أدراجه حزينا فدخل بيته ومرض ولم يعد يقوى بعد ذلك على القيام من الفراش. ثم أحس بدنو أجله فكتب هذه البردية لفرعون والتى يعود تاريخها إلى عام ٢٢٦٠ قبل الميلاد:

كل الأشياء الجميلة زالت واندثرت

لم يبق لنا إلا القبح فى كل مكان.

الأشياء الطيبة اختفت

لم يبق حتى قلامة ظفر.

البلاد تدور كدولاب الفخار

ولا يخرج منها إلا الأشكال الممسوخة

والأحوال المقلوبة.

الأكابر فى أسى

الفقراء يتضورون جوعا.

النهر صار دما

والناس منه يشربون.

المعابد أهملت.

الأبنية صارت حطاما.

تلال الأحجار فى كل مكان.

تأمل يا مليكى:

الذهب واللازورد والفضة

والملاخيت والبرونز والعقيق

كلها تزين جيد اللصوص

والشرفاء يصرخون:

أما من شىء نأكله؟!

انظر يا فرعون العظيم:

من كانوا يملكون

الثياب الفاخرة

غدوا يرتدون الأسمال

ومن لم ينسج لنفسه أبدا

صار يملك أقمشة كتانية فاخرة

فيا للأسى لما حل بالبلاد!

أيا فرعون المجيد

يا سليل أعظم ملوك الزمان

يا ابن الآلهة وحبيبها

فى يدك الصولجان

وعلى رأسك أعظم التيجان

فاضرب بقوة رأس الثعبان

اقض على الفساد ورد العدل للبلاد

حتى تنبت من جديد الأزهار.

ويعود البساط الأخضر

يكسو أرض وادى النيل

وتنمو من جديد الأشجار.

وتتعارض تلك الصورة مع ما ورد فى مواضع أخرى حول بداية عهد بيبى الثانى حيث خرجت الحملات العسكرية والاستكشافية إلى كل من آسيا وأفريقيا، ومن أشهرها الحملات الأربع التى قادها الأمير حرخوف حاكم الجنوب داخل أفريقيا بأوامر من الملكين مرنرع وبيبى الثانى من بعده، ففتح طرقا جديدة لمصر فى الجنوب وسلك دروبا مجهولة فيما وراء النوبة ودارفور وكان يعود من كل رحلة بمنتجات ثمينة من بخور وأبنوس وجلود فهد وسن فيل، وكانت القبائل الأفريقية تذهلها قوة الجيش المصرى فتقدم لأفراده كل ما يريدون.

وعلى جدران مقبرة حرخوف التى تحكى سيرة فتوحاته العظيمة نجد نص رسالة بعث بها إليه الفرعون بيبى الثانى أثناء رحلته الرابعة إلى الجنوب قبل حوالى ٤٥٠٠ سنة. فى تلك الرحلة أحضر الأمير معه أحد الأقزام هدية لفرعون الذى كان لا يزال طفلا فى العاشرة من عمره.

وفور علم فرعون بأمر الهدية كتب إلى حرخوف يقول فى حماس الأطفال:

«عد فورا إلى القصر الملكى وأحضر معك ذلك القزم الذى جلبته من أقاصى الدنيا. حافظ على حياته واعتن بصحته، وحين يركب معك المركب النيلية التى ستحضره إلى القصر فليحيط به رجال أشداء حتى لا يسقط فى الماء. وعندما يحين وقت النوم فى الليل خصص له رجالاً موثوقاً بهم يحرسونه واذهب بنفسك لتتفقد أحواله عشر مرات فى الليلة. إن جلالتنا يتوق لرؤية هذا القزم أكثر من كل ثروات سيناء فى الشرق أو بلاد بونت فى الجنوب».

وقد ظل الأمير حرخوف يعتز بتلك الرسالة طوال حياته حتى إنه أمر بنقشها على واجهة مقبرته بعد وفاته.

لكن عصر الفتوحات الكبرى كان قد مضى بعد أن شاخ فرعون مصر فوق عرشه فتدهورت الأحوال مما دفع أقرب المخلصين له لمحاولة تبصيره بالخطرالمحدق بالبلاد.

قرأ كاتب الديوان رسالة إيبو أور على الملك العجوز الذى كان متكئا على رئيس البلاط من ناحية وعلى كبير الكهنة من الناحية الأخرى فلم يفهم الملك الرسالة. كانت أقوال حاشيته قد صمت آذانه بما كانت تؤكده له ليل نهار من أن أمور المملكة فى تقدم وازدهار. نظر فرعون إلى كبير الكهنة على يمينه وإلى رئيس البلاط على يساره ثم سألهما: «ما معنى رسالة إيبو أور؟» فرد رئيس البلاط: «لا أعرف يا مولاى. قد تكون مقطوعة أدبية من وحى الخيال مثلما يهذى به الشعراء».

قال الملك: «لكن الأدب يستلهم الواقع، والشعراء أصحاب خيال لكنهم لا يهذون، فماذا تظن قصد إيبو أور؟» فرد رئيس البلاط: «ربما قصد الحديث عن ممالك أخرى فى الشرق أو فى الغرب غير مملكتك يا مولاى»، وقال كبير الكهنة: «لا تلق للبردية بالا يا مولاى هى خرف المرض ليس أكثر».

فانزعج فرعون مما سمع وقال: «هل مرض إيبو أور؟ لماذا لم يخبرنى أحد؟ أرسلوا إليه كبير أطباء القصر فورا ليطببه ثم ادعوه لمقابلتنا حتى نعرف منه ما قصده فى رسالته». لكن إيبو أور كان قد أراح ضميره بإرسال هذه الرسالة لفرعون فرحل فى نفس اليوم عن الدنيا. ولم يفهم فرعون ما قصده فى رسالته.

وتفاقمت الأوضاع فى جميع أرجاء البلاد وتهرأت الدولة وانتشر الفساد. وفى ليلة جفل فيها القمر توفى فرعون مصر العجوز فسادت الفوضى فى كل مكان وبعد ثلاث سنوات انتهت الدولة القديمة وتوالى الملوك والفراعين الواحد تلو الآخر فى تتابع سريع فمر كل ملوك الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة فى فترة لا تزيد على ستة عقود، وكأن تاريخ مصر تحول إلى فيلم هزلى صامت سريع العرض تفتتت خلاله البلاد. ثم حدثت الفجيعة الكبرى حين انقطعت العروة المقدسة التى جمعت بين شطرى وادى النيل وانتهت وحدة أرض مصر التى أقامها مينا العظيم قبل ذلك بأكثر من ٩٠٠ عام، وتحولت مصر القوية المجيدة إلى مصرين صغيرين هزيلين. وبينما أنجز المصريون فى وحدتهم بناء الأهرامات، انشغلوا فى انفصالهم بالحرب الأهلية بين الدولتين الشمالية وعاصمتها منف والجنوبية وعاصمتها طيبة.

لكن مصر الضعيفة الواهنة لم تكن لترضى الآلهة، فمصر كما يقول آتوم الإله الذى يسود الكون والبشر، الإله الأكبر غير المتجسد فى أى من الأشكال البشرية أو الحيوانية كبقية الآلهة التابعة له، هى كمت، أى الأرض السوداء، أرض الخصوبة والنماء، أرض الوحدة والأمن والسلام.

انتفضت السماء غضبا لما ألم بمصر وبكت إزيس هذا الانقسام وقالت: «لقد جمعت أطراف أوزيريس من فوق قمم الجبال فكيف لى أن أجمع الآن أشلاء البلاد!» لكن الإله بتاح راعى وحدة مصر وحاميها هدأ من روعها مؤكدا لها أنه خالق من يعيد لمصر الوحدة التى قدرتها لها الآلهة.

وفى إحدى ليالى الصيف الحارة أبحر فى السماء خونسو إله القمر طارد الأرواح الشريرة والشافى من المرض، فوق سحابة بيضاء صافية قاصدا جنوب الوادى برسالة إلهية.

وفى الصباح ومن مدينة طيبة سمع صوت منتوحتب الثانى حاكم دولة الجنوب يصدح فى جميع أرجاء البلاد من شاطئ البحر فى الشمال إلى بلاد بونت فى الجنوب:

لبيك يا حبيبتى لبيك

الجمال هو أنت يا كمت

شاطئ النهر هو ذراعك

وماء النيل هو دماؤك

لكن التمساح راقد هناك

فوق شط الرمال بفمه المفتوح

وحبك يملؤنى شجاعة وإقداماً

سأعبر فوق النهر

سأخلصك منه يا حبيبتى

سأعيد إليك رونقك وجمالك

سأعيد إليك مجدك وجلالك.

كان منتوحتب حاكم طيبة الذى تلقى كلمات القمر هو من نذرته الأقدار لإنقاذ مصر، فلم تمض بضع سنوات حتى وضع حدا للفوضى التى استشرت فيما يعرف باسم مرحلة الانتقال وأسس الأسرة الحادية عشرة التى بدأت بها الدولة الوسطى. واقتفى منتوحتب أثر مينا العظيم فجمع مرة أخرى بين الشمال والجنوب فى وحدة جديدة قدرت لها الآلهة هذه المرة ألا تنفصل عراها حتى أبد الآبدين.

نصوص: محمد سلماوى



okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
محمد , الكاتب , برديات , شملاوي


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم‏ سلام العبيدى نفحات إيمانية 4 04-03-09 11:16 PM
قائمة أسماء الأسرى الفلسطينيين المنوي الإفراج عنهم من السجون الإسرائيلية هيام1 زهرة المدائن 2 08-12-08 02:43 AM
17 سنة ونص مس لاجئة شخصيات وحكايات 8 20-03-08 12:56 AM
قصه حلوه اتمنى قرائتها زهرة حنــــان شخصيات وحكايات 8 10-04-03 01:11 AM


الساعة الآن 08:30 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.

زهرة الشرق   -   الحياة الزوجية   -   صور وغرائب   -   التغذية والصحة   -   ديكورات منزلية   -   العناية بالبشرة   -   أزياء نسائية   -   كمبيوتر   -   أطباق ومأكولات -   ريجيم ورشاقة -   أسرار الحياة الزوجية -   العناية بالبشرة

المواضيع والتعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي منتديات زهرة الشرق ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك

(ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر)