رد: تراجم أهل العلم
قال لي صاحبي :
أنسيت أن الموت حق واقع ونهاية كتبت على الإنسان ؟
أنسيت أن الله يبقى وحده وجميع من خلق الميهمن فان ؟
أنسيت ؟ لا والله لكني إلى باب الرجاء هربت من أحزاني
يا صاحبي :
إن موت الشيخ ـ رحمه الله ـ ليس كموت رجل من الناس بل إنه موت لكثير من العلم وموت لكثير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الله تعالى يحفظ البلاد بالعلماء العاملين والشيخ رأس في هذا فإن الأمة لا تهلك ما وجد المصلحون .
وإنّا نعلم أن الشيخ قدم على ربٍ رحيمٍ غفورٍ يرحم المسلم المقصر العاصي فكيف برجل عاش كل حياته للإسلام والمسلمين ، ولكن حالنا نحن كحال أم أيمن ـ رضي الله عنها ـ فقد جاءها أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ يَزُورُهَا فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالا لَهَا مَا يُبْكِيكِ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَتْ :مَا أَبْكِي أَنْ لا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ السَّمَاءِ فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا ) ونحن والله لا نبكي على الشيخ فما عند الله خير له وأبقى ولكن نبكي على أنفسِنا ؟
بقينا نتذاكر أنا وصاحبي شيئا من مآثر الشيخ وخلقه فتذكرتُ معاملته مع الناس فقد كان يفتح مكتبه من أول وقت الدوام إلى آخره وكذلك في منـزله فهو يرد على الهاتف ، ثم يرد على الفتاوى المكتوبة ، ويسمع حاجات الناس ويسعى على قدر استطاعته لحلها ، ومن ذلك أنه جاءه رجل وأنا في منـزله فقال : ( يا شيخ أنا عامل والنظام لا يسمح بِاسْتِقْدَام زوجتي فهلا كتبت للجهات المسؤلة لعلهم يوافقون ) فقال الشيخ : ( إن شاء الله اكتب لي ويكون خير ) .وهذا عليه دين وهذا يريد الزواج وهذه لديها أيتام ولا عائل لهم وغيرهم كثير. وقد سأله رجل ـ بعدما رأى من حاله العجب ـ كيف لا تتعب من كثرة أعمالك ودخول الناس عليك وعرضهم لحاجاتهم فقال للسائل بعد إلحاح : ( يا بني إن الروح إن كانت تعمل لم تتعب الجوارح ) أي إن كانت الروح حاضرة فإن الجوارح تبع لا تتعب .
وإذا كانت النفوس كِبَارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
وكان يفتح بيته لطعام الغداء والعشاء فيأتيه كلٌ بحاجته . ولم يأكل الشيخ طعاماً لوحده منذ خمسين سنة ، وما كان الشيخ يضيق صدره بسائل ولا مستفتٍ ، ويتحمل من الناس ما لا يستطيع أكثر الناس تحمله ، بل حتى أولئك النفر الذين كان الشيخ يخالفهم ما كان يسبهم ولا يهينهم بل يترفق بهم حتى قال أحد مخالفي الشيخ : ( ابن باز صحابي لم ير النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ) فالقائل أراد أن خلقه كخلق الرعيل ا لأول الذي رباه محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ .
ولا يعرف أن الشيخ انتصر لنفسه أَبَدًا ، بل لقد سمعت رجلاً يقول له : ( يا شيخ لقد اغتبتك فحللني ) فقال الشيخ ـ رحمه الله ـ : ( ظهري حلال لكل مسلم ) !!! .
بل لقد قيل له في محاضرة عامة : ( أن الشيخ فلان يقول إنك مبتدع فما رأيك ) ؟؟ فقال ـ رحمه الله ـ : ( هو عالم مجتهد ) !!! .
أما أمره بالمعروف فقد كان الشيخ ـ رحمه الله ـ مثالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما يكاد يسمع بمكان يحصل فيه منكر إلا طلب من أهل العلم في ذلك المكان التحقق والكتابة له ؛ فإن أكدوا له ذلك كتب للمسئول عنه وخوّفه بالله وأكد عليه ضرورة إزالته ، وكان يتابع خطاباته ليتأكد من إزالة هذا المنكر ، وكم جاءنا في مكتب الدعوة من خطاب يطلب التأكد من وقوع بعض المنكرات .
ولم يكتف بالأمر بالمعروف داخل المملكة بل أرسل برقيات لعدد من الحكام يأمرهم فيها بالمعروف وينههام عن المنكر .
ولما سمع الشيخ ـ رحمه الله ـ بأحد حكام الدول العربية وهو يسجن المؤمنين ويعذبهم ويقهرهم كتب له يخوفه من عذاب الله ويذكره بالله لعله أن يرتدع أو يتوب .
وكم كتب الشيخ ـ رحمه الله ـ لكثير من الصحف يرد على أولئك الكتّاب الجهلة الذين يجاهرون بالفسق والدعوة إليه ، وهم يلبسون لباس التقوى ، أو أولئك الجهلة الذين يفتون من غير علم بالكتاب والسنة . وكان ـ رحمه الله ـ يفرق بين من شهد له بالأعمال الحسنة وبين أهل السوء .
أما عبادة الشيخ ـ رحمه الله ـ فإنه كان يحج في كل سنة ولم يترك الحج منذ أن استطاع إليه سبيلاً إلا في هذا العام ؛ فقد منعه الأطباء من الحج ، وما ترك ـ رحمه الله ـ الصلاة في الجماعة أبداً حتى في مرض موته ، وكان ـ رحمه الله ـ إذا خرج الناس من عنده يقوم الليل ويدعوا ربه بما لا يستطع الشباب فعله .
وإن من أعظم آثار الشيخ ـ رحمه الله ـ أن كثيرا من العلماء كانوا لا يخرجون على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ فكان الشيخ يعارض ذلك ويفتي حسب ما يقتضي الدليل رجحانه فخالفوه وتكلموا عليه فأظهره الله لصدق نيته وتجرده للحق .
ومنها ما اشتهر من أن شيخه مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم منعه من الفتوى بعدم وقوع الطلاق البدعي فأصر الشيخ ـ رحمه الله ـ عل الفتوى بها ، وأخبرني شيخنا الشيخ عبدالله بن عقيل ـ وفقه الله لكل خير ـ أنه حضر مجلس الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وقبل دخول الشيخ عبدالعزيز ابن باز طلب الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ من الملك أن يمنع الشيخ ابن باز من الفتوى بالطلاق فلما دخل الشيخ أمره الملك أن يمتنع عن الفتوى فقال الشيخ : سأفتي بها وأصر على الفتوى بها ـ رحم الله الجميع ـ .
يا صاحبي :
إنه لا يعرف قدر هذه المصيبة إلا من عرف أثر الشيخ ـ رحمه الله ـ فإن كثيرا من العلماء كانوا يحجمون عن الفتوى في بعض المسائل ويرجعونها لسماحته ، وكثير من المنافقين ينتظرون وفاة الشيخ ليظهروا ما عندهم من الشر والكفر والإلحاد ، ومَنْ يَعِشْ مِنا فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا وسَتَذْكُرُ مَا أَقُولُ لَك وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ .
يا صاحبي :
نحن شهداء الله في خلقه فلعلك سمعت أنه مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ " وَجَبَتْ " ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا … فَقَالَ : " وَجَبَتْ " فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ لِهَذَا وَجَبَتْ وَلِهَذَا وَجَبَتْ قَالَ : " هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ" وها أنا أشهد ولعلك تشهد معي أن الشيخ أدي ما عليه وأنه خيرة العلماء في هذا الزمان ولا نزكي على الله أحداً .
يا صاحبي اسمع قول من قال :
واستمر الشيخ ـ رحمه الله ـ معلماً للعلم طوال فترة حياته حريصا على تعليم الناس حتى في الفترة التي مرض فيها مرض وفاته ، عاش الشيخ تقيا نقيا ، وعاش صابرا محتسباً ، وعاش طودا شامخا ، وعلما متواضعا ومات مسبحا مستغفرا .
فقل لي يا صاحبي بالله عليك هل يأتي غيره ويكون مثله ؟ أونصفه ؟ .
سكت صاحبي ولم يحر جَوَابًا .
وهذه هي المقالة الثانية :
هون عليك [10]
هون عليك … هون عليك … الشيخ بحاجة للدعاء !!!.
كلمات قالها صاحبي وهو يسمع نشيجي على وفاة الشيخ الإمام عبدالعزيز ابن باز ـ رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة ـ .
كلمات لم أجد لها معنى في ذلك الوقت أما الآن فقد وضعتها في خانة العبارات المضحكة والكلمات المتقاطعة .
لا أنكر أن الشيخ كغيره من المسلمين تحت مشيئة الله تبارك وتعالى ، ولكن الله عدل لا يظلم مثقال ذرة ومثله قدم في دنياه ما يشفع له عند ربه .
تذكرت الشيخ وقد مضى عام على وفاته ، عام الحزن ، عام وفاة العلماء ورفع العلم .
لا يدري صاحبي لم كنت أبكي .
كنت أبكي لحبي للشيخ الإمام نعم ؛ ولكن كنت ابكي بحق على أمتي المسكينة ، فكم من فتنة كان الشيخ باباً موصدا دونها .
وقد مات الشيخ الإمام .
كنت أبكي على كثير من الشباب الحائر المحتاج لمن يقوده وليس ثمة قائد مثل الشيخ .
وقد مات الشيخ الإمام .
كنت أبكي الشباب المتحمس الذي انطلق يمنة ويسره ولا عالم يرجع له ليفصل بين الناس .
وقد مات الشيخ الإمام .
هذا عام مر فمن من الناس استطاع أن يملأ مكان الشيخ ؟؟ .
أضحى الناس كلهم يتامى ولا أب لهم .
فهلا عالم يقوم بأمر الله تعالى ـ كقيام الشيخ الإمام ـ ويكون أبا لهؤلاء الزرافات من الأمة ؟؟.
هون عليك الشيخ بحاجة للدعاء !! .
كل الخلق كذلك
ولكن نحن بحاجة لمن يبكي علينا .
-------------------------
[1] كتب عن الشيخ الكثير من الكتب والمؤلفات منها المفردة ومنها المشتركة مع غيره من العلماء ومن المفردة : الإنجاز في سيرة الإمام عبدالعزيز ابن باز عبدالرحمن الرحمة ، ابن باز الداعية الإنسان لفهد البكران، إمام العصر للدكتور. ناصر الزهراني ، مؤلفات ابن باز لمحمد خير يوسف ، الممتاز في مناقب الشيخ ابن باز للدكتور.عايض القرني ، الشيخ ابن باز للدكتور.مانع الجهني ، مواقف مضيئة في حياة الإمام ابن باز لحمود المطر ، التبريزية في التسعين البازية للدكتور. حمد الشتوي ، جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز ابن باز للدكتور.محمد الحمد ، ترجمة موجزة للعلامة عبدالرزاق عفيفي ، وترجمة موجزة للعلامة عطية سالم ، الدررالذهبية لعبدالرحمن الرحمة ، أما الكتب التي ترجمت لسماحته مع غيره فمنها : علماء الحنابلة العلامة بكر أبو زيد برقم : 4235 ، علماء ومفكرون عرفتهم لمحمد المجذوب 1/77 ، علماؤنا 28 .
[2] قال الدكتورحمد الشتوي في الإبريزية : ( إن سماحة الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي ـ رحمه الله ـ يعتبر من طبقة أساتذة الإمام ابن باز ـ رحمه الله ـ فقد كان يجلس إلى بعض دروسه واستمع إلى بعض شروحه فترة كان يتناوب فيها مع العلامة محمد الأمين في جامع المفتي العام الإمام محمد بن إبراهيم ـ رحمهم الله جميعا ـ .) 179 .
[3] علماء ونفكرون عرفتهم 101 .
[4] مع الأسف أنه لم يخرج شيء منها مع أنه قد مضى على وفاة الشيخ ـ رحمه الله ـ ثلاث سنوات ، وقد حرمه من منع نشرها أجرا عظيما .
[5] مجلة المجلة 1009
[6] مواقف مضيئة 113
[7] مواقف مضيئة 111
[8] وقد ذكر الشيخ عطية سالم ـ رحمه الله ـ شيئا من هذا المعنى في ترجمته للشيخ .
[9] جريدة اليوم : 3/2/1420هـ
[10] جريدة اليوم 1/2/1421هـ
|