لِمَـاذا أكتب؟ إرضاءً للقارئ، أم إرضاءً للذات،
ï»؟لا يوجد إنسان لا يمتلكُ فكراً أصيلاً، ولكن يوجد إنسان يجهل قوة التفكير التي في داخلهِ، ولذلك يندرُ مـنْ يسأل: أيُّهما الأفضل لذاكرة الأدب: الإتيان بفكرة أصيلة واحدة، أم تركيز الجهود على استنساخ أفكار الآخرين؟ لا يمكن الحديث عن موت القارئ أو المتلقِّي فجأةً، ودونما أيَّـة مقدِّمات منطقية، خاصَّةً وأنَّ فعل القراءة هو الوحيد الذي يكفلُ تفعيلاً لبعض الأنشطة الأساسية البيولوجية في الإنسان، كالتأمل والتفكير، والانفعال، ولا يمكننا التعرُّض لمسألة موت القارئ، قبل سؤالنا:
ما القارئ؟ ما القراءة؟
ï»؟القراءة ظاهرة حضارية، مركبَّة من عدة عمليات، بصرية، لسانية، ذهنية، نفسية، هيرمينوطيقية، باعتبار النص(مادة خام صَمَّاء، وأنَّ القراءة هي التي تفجِّر طاقاتهِ وتبعثُ فيه الحياة، وهذا ما يُكرِّس دور القارئ كمنتج للمعنى، وبقاء النص مُنْفَتِحَاً دائماً على قراءات جديدة)
1، ماذا يعني موت القارئ غير موت النص؟ موت النص قد يكون بسبب ضيق أفقهِ، كأنْ يكون كاتبهُ كتبهُ لقراء محدَّدين، في زمن محدَّد، وخلوِّهِ من الشرط الإنساني، يفقده قدرته على البقاء مع مرور الزمان، واختلاف فئة القراء، كأدب الحرب الذي يُحرِّض الآخر على الوحشية والظلم، وإلغاء الآخر، فيترك النص على الرفوف، تتراكم فوقه طبقات الغبار، والنص غير موجود، ما لم يُقرأ، ولقد حاول البعض إماتة القارئ، تارةً باعتبار المؤلف القارئ الأول للنص، وتارة بالاستناد إلى الكسل الذهني الذي يصيب القارئ، ولكن هذه الدعاوى لم تصمد، وبحسب قرار دريدا القطعي
(لا شيءَ خارج النص) نستنتج أنْ لا وجود للقارئ إلا داخل النص، فحين يشرع القارئ بقراءة النص، يكون قد صار في داخلهِ، وجزءاً منه، في عملية اتصَّال وثيقة، ومعقَّدة، لكن فعل القراءة، فعلٌ مطلق، غير متناهٍ، يمنحُ القارئ بعداً ثقافياً ومعرفياً وإنسانياً، باعتبار فعل القراءة حَدَث ثقافي ومعرفي، لا تكتمل بدونه العملية الإبداعية، فالقارئ جوهر للمعرفة، القارئ المعرفي، الأنثروبولوجي، وليس القارئ الفرد المجرَّد.
بينما يمكنني الحديث عن التأجيل، ما دام لكلِّ كتابٍ قصة ذات نهاية مفتوحة، فالكتاب تتجدَّد حياته عند كلِّ قراءة جديدة، ويعيش مئات السنين، وخاصةً إذا امتاز بالأصالة، لا يوجد كتاب، لم يحصل على قراءة ثانية، وفرصٍ متعدِّدة وتأويلات مغايرة، كما لا يمكن الحديث عن موت أحد أطراف ثالوث العملية الإبداعية(المؤلِّف- النص- القارئ)، دون التأثير على الطرفين الآخرين، والطرف الأخير هو الأهم في العملية، فبدون قارئ لا وجود للعملية الإبداعية، كتابة النص(تشبه وضع رسالة في زجاجة وإلقائها في البحر، وقد تقع في أيدي أصدقاء، أو أعداء غير متوقعين)
2، وقد تظلُّ في البحر، تنتظرُ إلى الأبد، ولكن هذا لا يعني موت القارئ، ولا المؤلِّف، (وفي ختام سيرة كافكا التي كتبها إرنست بافل عام 1984 أشارَ إلى أنَّ الأعمال التي تتناول كافكا وأدبه قد وصلت في هذه الأثناء إلى 15000 عنوان في جميع اللغات العالمية البارزة، حيث تمَّ تفسير كافكا مجازياً وسياسياً ونفسياً)3، وربما قد تضاعف هذا الرقم عشرات المرَّات، لأنَّ العملية الإبداعية برمتها واقعة تحت مظلة التأجيل، بانتظار فرصة أخرى للتأويل، لكن هذا الإحصاء ربما يعني إغفال ذاتية القارئ الاعتيادي الفرد، خارج إطار المناهج النقدية، بينما يكاد جميع المبدعين يتفقون بأنَّهم لا يكتبون من أجل النقّاد، بل من أجل القارئ الاعتيادي، باعتبارهِ هدفاً، والذي بدوره ينتظر العملية النقدية لإبراز الجيد، والتي ليس بمقدورها تلقين القارئ معانٍ للنص، من خارجهِ، أو خارجِ سياقهِ، ونحنُ نعيشُ في زمنٍ يُصعبُ فيه على الإنسان أنْ يقرأ رواية في يومٍ واحد، يقرأها في أيام، وربما في شهور، وبذلك يضعف التركيز في عملية القراءة، فلو أنَّ روايةً قصيرة كمسخ كافكا قُرِأَتْ بصورة مُتَقَطِّعة فإنَّ هذه القراءة لن تسمح بإضافة بعد ميتافيزيقي على هوية القارئ، الذي سوف يُحرم من الوقوف على تجارب حيوات أُخرى مَعيشة.
للالتفاف على استبعاد المؤلف من العملية الإبداعية بعد انتهائه من النص، باستطاعتنا افتراضهُ "القارئ الأول"، لكن لماذا؟ خاصَّةً وأنَّ عدم إماتة المؤلف قد يؤدي إلى قراءة النص باعتباره بيوغرافيا خاصة بالمؤلف وتاريخه الشخصي، بعيداً عن الخصائص الجمالية للنص باعتباره عملاً فنيا، إذن بوسع العملية الإبداعية إغفال المؤلِّف، لإفساح المجال للقارئ، في اتصاله بالنص، أنْ يتفاعل معه، من أجل تغذية استمرار الإنتاج المعرفي، فإذا كان القارئ هو الضلع المجاور(أ – ب)، فإنَّ النص هو الضلع المقابل(ج- ب)، في مثلث قائم الزاوية، ليساوي تربيع المحصِّلة(أ- ج) حاصل جمع تربيعهما، والقارئ(أ- ب) يعتمد في انوجاده على وجود النص(ب- ج)، ونوعية القارئ تعتمد على حدود النص وجماليته، وحدود الأول تتزامن مع حدود الثاني، انعداماً ووجوداً.
لكن إذا كنا موقنين بالتغيير الذي طرأ على القارئ، لن ننكر التغيير الذي طرأ على المبدع أيضاً، وبحسب أوكتافيو باث(إنَّ نصف تاريخ الشعر الحديث هو قصة افتتان الشعراء بأنساق صاغها العقل النقدي)، فقد ظهرت لدينا شخصية المؤلِّف الحاذق، صَيَّاد الجوائز، الذي يكتب بحسب أهواء النُّقاد، أما المبدع الذي لم يـتأثَّر بالعقل النقدي، واتجاهات الحداثة، لن يجد مفرَّاً من سؤالين يلاحقانهِ:
التعديل الأخير تم بواسطة zahrah ; 24-12-21 الساعة 10:31 PM
|