السفير العملاق
[ALIGN=CENTER]
عـبـا د ة ســــفـيـر عـمـرو بـن الـعـا ص إلى المـقـوقـــس [/ALIGN]
[ALIGN=RIGHT] لما أبطأ على عمرو بن العاص فتح مصر ، سأله المقوقس أن يبعث له رسولاً .
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر إلى المقوقس ، أحدهم عبادة بن الصامت ، وكان طوله عشرة أشبار - أكثر من مترين وربع - وأمره عمرو أن يكون متكلّم القوم ، وكان عبادة أسود اللون ، فلما دخلوا على المقوقس تقدّم عبادة فهابه المقوقس وقال : نحّوا عني هذا الأسود وقدّموا غيره يكلّمني .
فقالوا جميعاً : إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً ، وهو سيدنا وخيرنا ، والمقدم علينا ، وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه ، وقد أمّره الأمير دوننا ، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله .
فقال المقوقس : وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم ، وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم .
قالوا : كلا ! إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه أفضلنا موضعاً ، وأفضلنا سابقة ، وعقلاً ورأياً ، وليس ينكر السواد فينا
فقال المقوقس لعبادة : تقدم يا أسود ، وكلّمني برفق ، فإني أهاب سوادك ، وإن اشتد كلامك عليّ ازددت لك هيبة .
فتقدم إليه عبادة وقال : قد سمعت مقالتك ، وإن فيمن خلّفت من أصحابي ألف رجلٍ كلهم مثلي ، وأشد سواداً مني ، وأفظع منظراً ، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم مني ، وأنا قد ولّيتُ وأدبر شبابي ، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوِّي لو استقبلوني جميعاً ، وكذلك أصحابي ، وذلك إنما رغبتنا ، وهمّتنا في الجهاد في الله واتّباع رضوانه ، وليس غزونا عدوّاً ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ، ولا حاجة للاستكثار منها ، إلا أن الله قد أحل ذلك لنا ، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً ، وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب ، أم كان لا يملك إلا درهماً ، لأن غايـة أحدنا من الدنــيا ، أكلة يأكلها يســدُّ بها جـوعته ليــلته
ونهاره ، وشملة يلتحفها ، وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه ، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى ، واقتصر على هذه بيده ، ويبلغه ما كان في الدنيا ، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ، ورخاؤها ليس برخاء ، إنما النعيم والرخاء في الآخرة ؛ بذلك أمرنا الله ، وأمرنا به نبيّنا ، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا في الدنيا ، إلا ما يمسك جوعته ، ويستر عورته ، وتكون همته وشغله في رضاء ربه ، وجهاد عدوه .
فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله : هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط ؟! لقد هبت منظره ، وإن قوله لأهيب عندي من منظره ، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلّها .
ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت وقال : أيها الرجل الصالح قد سمعت مقالتك ، وما ذكرت عنك وعن أصـحابك ، ولـعمري ما بلـغتم ما بلـغتم إلا بما ذكرت ، وما ظـهـرتم
على من ظهرتم إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها ، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يُحصَى عدده ، قوم معروفون بالنجدة والشدّة ممن لا يبالي أحدهم من لقى ولا من قاتل ، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ، ولن تطيقوهم ، لضعفكم وقلّتكم ، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً ، وأنتم في ضيقٍ وشدّةٍ من معاشكم وحالكم ، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم ، وقلّة ما بأيديكم ، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجلٍ منكم دينارين دينارين ، ولأميركم مائة دينار ، ولخليفتكم ألف دينار ، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم ، قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به .
فقال عبادة : يا هذا ، لا تغرّن نفسك ولا أصحابك ، أما ما تخوّفنا به من جمع الروم وعدّتهم وكثرتهم ، وأنا لا نقوى عليهم ، فلعمري ما هذا بالذي تخوّفنا به ، ولا بالذي يَكْسِرنا عما نحن فيه ، إن كان ما قلتم حقاً فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم ، وأشدُّ لحرصنا عليهم ، لأن ذلك أعذر لنا عند الله إذا قدمنا عليه ؛ إن قُتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا من رضوانه وجنّته ، وما من شئ أقرُّ لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك ، وإنا منكم حينئذٍ على إحدى الحسنيين ، إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم ، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا ، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا ، وإن الله قال لنا في كتابه : {كم من فئة قليلة غلبة فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين }(1) .
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساءً أن يرزقه الشهادة ، وألا يرده إلى بلده ، ولا إلى أرضه ، ولا إلى أهله وولده ، وليس لأحدٍ منا همٌ فيما خلّفه ، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وغنما همّنا ما أمامنا .
وأما قولك : إنا في ضيقٍ وشدّة من معاشنا ، وحالنا ؛
فنحن في أوسع السعة ، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها نفسنا أكثر مما نحن فيه ، فانظر الذي تريد ، فبيّنه لنا ، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها ، إلا خصلة من ثلاث ، فاختر أيها شئت ، ولاتطمع نفسك في الباطل ؛ بذلك أمرني الأمير ، وبها أمره أمير المؤمنين ، وهو عهد رسول الله من قبله إلينا .
إما إجابتكم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره ، وهو دين نبيّنا ، والأنبياء والرسل صلوات الله عليهم ، أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه ، ورغب عنه حتى يدخل فيه ، فإن فعل كان له ما لنا ، وعليه ما علينا ، وكان أخانا في دين الإسلام ، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم ، ولم نستحل أذاكم ، ولا التعرض لكم ، وإن أبيتم إلا الجزية ، فأدّوا إلينا الجزية عن يدٍ وأنمتم صاغرون ، نعاملكم على شئٍ نرضاه نحن وأنتم في كل عام أبداً ما
بقينا وبقيتم ، ونقاتلى عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شئ من أرضكم ودمائكم ، وأموالكم ، ونقوم بذلك عنكم إذا كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهدٌ علينا ، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف ، حتى نموت عن آخرنا ، أو نصيب ما نريد منكم .
هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ، لا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره ، فانظروا لأنفسكم .
قال المقوقس : هذا لا يكون أبداً ، ما تريدونا إلا أن تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا .
فقال عبادة : هو ذلك ، فاختر ما شئت .
فقال المقوقس : ألا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الثلاث ؟
فرفع عبادة يده وقال : لا ورب هذه السماء ، ورب هذه الأرض ، ورب كل شئ ، ما لكم عندنا خصلة غيرها ، فاختاروا لأنفسسكم .
فالتفت المقوقس عند ذلك لأصحابه ، وقال : قد فرغ القوم ، فما ترون ؟
فتحدثوا معه ، ثم التفت إلى عبادة ، وقال : قد أبى القوم ، فما ترى ، فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرتكم هذه ما تمنيتم ، وتنصرفون .
فقام عبادة وأصحابه .[/ALIGN]
|