[ALIGN=CENTER]الشهداء الأربعة...الخنساء بنت عمرو
من أراد أن يعرف كيف يُقلّب الله القلوب من حال إلى حال ، وكيف يصنع النفوس الأبية صنعا يثيرالإعجاب ، وكيف ينزع منها العبث والهزل والقنوط ويبعث فيها الرجاء والأمل والرضا بالقضاء والقدر - فلينظر إلى الخنساء بنت عمرو بن الشريد الأسلمية كيف كانت في الجاهلية ثم كيف صاغها الإسلام صياغة جديدة ، وتحولت معها إلى امرأة مجاهدة صبور ، تحرض أولادها على الجهاد في سبيل كتاب الله وتدفعهم إلى ميادين القتال لكي يسطروا على البطولة والتضحية لكي تنال باستشادهم هناء الدارين دار الدنيا ودار الآخرة فقد أسلمت رضي الله عنها مع وفد من قومها وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامها ، وتركت الشعر جانباً ، واشتغلت بتلاوة القرآن الكريم ، وما كانت تنشد الشعر بعد إسلامها إلا في مناسبات خاصة . وقد حضرت موقعة القادسية بين المسلمين والفرس في السنة الرابعة عشرة من الهجرة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعها بنوها الأربعة ، فقالت لهم حين نادى سعد بن أبي وقاص حي على الجهاد :- يا بني لقد أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو رجل واحد ، ما خنت أباكم ،ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرّت نسبكم، و تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية . يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .. آل عمران:200
فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين ، فاغدوا على قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وحلّت ناراً على أوراقها ، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدا ء خميسها ، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة . وأعانتهم بكل ما استطاعت من قوة مادية ومعنوية ، وزودتهم بالنصائح الغالية ، وأوصتهم بأن يكروا ولا يفروا ، وأن يقدموا ولا يحجموا .وليس هناك كلمات أبلغ من هذه الكلمات التي تفجرت من ينابيع حكمتها فبعثت في نفوسهم دوافع الشجاعة والإقدام، وألهبت في نفوسهم الحمية المحمودة في مثل هذه المواقف البطولية ، وغرست في نفوسهم حب الاستشهاد في سبيل الله فأقبلوا على الحرب يتوسطون جموع العدو، ويضربون فوق العناق بكل قوة وشراسة ، لا يبالون أسقطوا على الموتى أم سقط الموتى عليهم . فهي قدمتهم جميعاً إلى أتون المعارك ، ولم تدخر منهم أحداً يعولها أو يقوم بشأنها ، لأنها تحسن التوكل على الله ، وتثق في فضله العظيم ، وترجوا من أعماق قلبها أن ينتصر المسلمون نصراً عزيزاً على تلك القوة الغاشمة التي جاءت من كل صوب وحدب بأعداد غفيرة لا أول لها ولا آخر ، ومعهم من العتاد والعدد ما لا يكاد يحصى ولا يُعد .
لقد جاءوا ومعهم الفيلة التي لا تقف أمامها الجيوش الجرارة ،و لاتستطيع أن تقهرها قوة مهما كان لديها من سلاح ، في الوقت الذي لم يكن المسلمون يملكون من السلاح إلا السيوف والرماح وقليل من الخيل المسومة ، ولم يكن لديهم من الأقوات ما يكفيهم ، ولم يكن عددهم كبير بل كانوا نحو أربعة آلاف رجل ، ولكنهم كانوا في ذروة الإيمان بالله تعالى ومقبلون عليه راغبون في خوض غمار تلك المعركة الضارية الشرسة مع جنود الفرس ، فقد باعوا أنفسهم لله ، لا يخشون الموت في سبيله ، بل يستحبون الموت في مثل هذه المعارك ، لينالوا شرف الشهادة وثوابها العظيم،مؤمنين بقوله عز وجل :(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً فى التوراه والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) .. التوبة 111
وكان سعد بن أبي وقاص هو القائد في هذه المعركة ، وهو قائد ملهم ، وفارس معلم يحسن التدبير ، ويحكم وضع الخطط الحربية ، ويعرف من أين يأتي العدو وكيف يأخذه على غرة ، وكيف يتغلب على كثرته وقوة سلاحه بحسن الحيلة وأخذ الحيطة والحذر ،وبعد عدة جولات شديدة البأس - انتصر المسلمون على عدوهم انتصاراً عظيماً في يوم مشهود ، فقد استطاع المسلمون بإذن الله تعالى أن يتعاملوا مع الفيلة حتى ردوها على أدبارها ، فانقلبت على من أتى بها ففرقت جموعهم وأحدثت بينهم دماراً شاملاً ، ففروا من الميدان خزايا مهزومين ، وقتل قائدهم رستم في هذه المعركة التي زلزلت أقدامهم وأذهبت ريحهم وشتت شملهم ، وقذف الله الرعب في قلوبهم . (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) .. الحج 40
وبعد انتهاء المعركة الفاصلة سألت الخنساء عن أبنائها الأربعة فأخبروها أنهم قد استشهدوا جميعاً ، فتلقت هذا الخبر بالصبر والرضا والجلد ، واحتسبتهم عند الله عز وجل ، وكفكفت دمعها ، وتخففت من حزنها ، فلم ترثهم كما كانت ترثي أخاها صخراً في الجاهلية . فالإسلام قد هذبها ، وأمدها بقوة إيمانية تجعلها قادرة على المثابرة في مثل هذه المصاب الجلل والإيمان نصفه صبر ونصفه شكر. (وبشر الصابرين الذين إذا أصباتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) البقرة 157:155
أتدري ماذا قالت حين علمت باستشهاد أبنائها الأربعة ؟ قالت : " الحمد لله الذي شرفني بقتلهم ، وأرجوا من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته " .هكذا استقبلت الخنساء : تماضر بنت عمرو الأسلمية نبأ استشهاد أبنائها الأربعة فما وهنت وما ضعفت وما استكانت وما تفوهت بما تتفوه به الثكلى عادة لعلمها بأنها ستلحق بهم وتحشر معهم إن شاء الله وتلقى جزاء الصابرين من جنات النعيم . وظلت الخنساء عازفة عن حياة الدنيا ، زاهدة في متاعها الفاني ، مشغولة بذكر الله وتلاوة القرآن ، حتى لقيت ربها عز وجل صابرة شاكرة، فكانت مثال للمؤمنات الصالحات في التضحية والفداء ، وقدوة لهن في الصبر على المكاره ومواجهة الشدائد بصدر رحب وقلب مطمئن، كما كان أولادها الأربعة مثالاً رائعاً في البطولة والنضال، وقدوة لكل مسلم يحرص على الموت من أجل أن توهب له الحياة . قال تعالى: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) .. آل عمران169
المصادر: مؤمنات لهن عند الله شأن للدكتور : محمد بكر إسماعيل .
[/ALIGN]